ماذا يحدث حين تتشابك الحكايا؟ في هذه الحالة بالذات، تُكَمِّل الحكايا بعضها بعضاً وتزيدها تفصيلاً، وتلقي كل حكاية مزيداً من الضوء على الأخرى.



وإنها لمتعة خاصة أن تقرأ نفس الأحداث مسرودة على لسان شخصين مختلفين، وإنه لَإبداع ذكي أن تختار المؤلفة أن تروي لنا نفس حكاية الإنسان الفلسطيني... حكاية الاقتلاع والتشرُّد والاغتراب ثم اللقاء والحب والزواج ثم التوق والحنين وتجربة العودة، من وجهة نظر رجل فلسطيني جرَّب الزواج والطلاق وراح يبحث عن امرأة ينتمي من خلالها إلى العالم، ومن وجهة نظر امرأة فلسطينية مرَّت بتجربة حب مأساوية فأسقطت الرجال من أجندتها وراحت تبحث عن تحقيق ذاتها من خلال النجاح العصامي المستقل، ليصطدم أحدهما بالآخر في لندن فتتغير الأجندات ويتلاحم المصير الفلسطيني.

فالكاتبة الفلسطينية سلوى الجراح تقسِّم روايتها هذه إلى قسمين: القسم الأول على لسان الزوج غريب عطا الله، ابن مخيم جباليا اليافاوي/ الغزاوي/ المصري الذي أصبح محاضراً للهندسة المعمارية في جامعة لندن، والقسم الثاني على لسان الزوجة سهام محمد، ابنة عكا الفلسطينية/ اللبنانية/ العراقية/الأردنية التي قدِمَت إلى لندن في بعثة من المجلس الثقافي البريطاني في عمَّان للمشاركة في دورة تدريبية لمعلمي اللغة الإنجليزية تدوم شهرين. كلاهما يسرد ما تسعفه به الذاكرة من ذكريات اللقاء والوقوع في الحب ثم الزواج، فنستمتع نحن القراء إذ نكتشف كيف تتطابق وُجهتا النظر أحياناً وتختلفان أشد الاختلاف أحياناً أخرى، فنفهم بنوع من النشوة كيف يجعل التاريخ الفلسطيني المشترك الأشخاصَ الفلسطينيين يتشابهون حد التطابق بينما تجعلهم تجارب الشتات المتباينة يختلفون حد التناقض في نفس الوقت.

غير أنَّ أجمل ما في هذه الرواية هو زمنها الدائري المُغلق، فهي تبدأ بدخول الزوج (غريب) في حالة من الغيبوبة الطويلة (كوما) التي تستمر لعدة أسابيع، وتنتهي باستيقاظه من الغيبوبة وعودته إلى الوعي في الصفحة الأخيرة، وكل أحداث الرواية تجري على شكل استرجاع للذكريات أثناء هذه الغيبوبة الطويلة. فالكاتبة تأخذنا في البداية معها إلى داخل دماغ (غريب) الغائب عن الوعي فنستمع إليه وهو يحدث نفسه، يصغي إلى أصوات زوجته وأصدقائه من حوله فيشرع في استذكار تجارب حياته معهم، وهو لا يعرف أنه في غيبوبة فيخاطب الناس من حوله ويستغرب غاية الاستغراب أنهم لا يسمعونه ولا يتجاوبون معه. ثم نخرج من دماغ (غريب) الغائب عن الوعي لننضم إلى الزوجة (سهام) التي ترافق زوجها وتعتني به طوال الوقت في المستشفى، تنظر إلى زوجها في سباته الطويل وتستحضر ذكريات حياتها معه، كيف عاشت قبله وكيف أصبحت بعد لقائها به. وهكذا تأخذنا ذكريات الغيبوبة إلى مخيمات اللاجئين جباليا وبرج البراجنة ونور شمس، وإلى غزة وطولكرم ورام الله، وإلى القاهرة وعمان وبغداد، لتتشابك جميعها على سرير الغيبوبة في إحدى الغرف في أحد مستشفيات لندن. وفي رأيي أن لهذه الغيبوبة مدلولات رمزية كثيفة، فهي تُستثمَر روائياً لتحقيق غاية على المستوى الرمزي، وكأن فلسطين وقضيتها تدخلان في حالة من الغيبوبة التي لا تُعرَف نهايتها، وكأنَّ التاريخ الفلسطيني يجري كله في حالة من غياب الوعي وانسداد الأفق وفقدان الوجود، وكأن الإنسان الفلسطيني والإنسان العربي عامَّةً يدخلان في حالة من العجز المطلق والاجترار اللاواعي لذكريات الماضي دون علم بما يجري من حولهما في عالم الحاضر، ودون أدنى معرفة بما ستؤول إليه الأمور، وما استيقاظ (غريب) من الغيبوبة في نهاية القصة سوى تعبير عن رغبة تفاؤلية لدى الكاتبة بعودة فلسطين والأمة العربية إلى الوعي، وإلى الحياة، وإلى العمل على صياغة التاريخ وتصحيح مساره.

إلا أنَّ هاتين الحكايتين اللتين يرويهما غريب وسهام كل على حدة، هما مجرد سرديتين لنفس الحكاية من وجهتي نظر مختلفتين، ولا أعتقد أن هذا هو "تشابك الحكايا" الذي قصدته الكاتبة في عنوان الرواية، بل إنني أجزم أن "تشابك الحكايا" الذي قصدته هو تشابك حكايا الشتات الفلسطيني الذي ابتدأ في عاصمة بريطانيا العظمى وانتهى فيها... تشابك حكاية غريب عطا الله اللاجئ الذي ترك أهله في غزة وانتقل إلى القاهرة حيث تعلم واشتغل وتزوج وتطلَّق ثم انتقل للعيش والعمل في لندن، وحكاية سهام محمد التي انتقلت مع أهلها من لبنان إلى العراق إلى الأردن ثم سافرت في بعثة إلى لندن، وحكاية صديقهما عبد الواحد "الفلاح ابن الفلاح" أخصائي الزراعة واستصلاح الأراضي من طولكرم الذي أبعدته سلطات الاحتلال إلى الأردن فعاش في عمان ثم انتقل إلى أمريكا ومنها إلى لندن، وحكاية زوجته منى عثمان الممرضة الفلسطينية في أحد مستشفيات عمان التي تعرفت بالصدفة على عبد الواحد فتزوجته وانتقلت معه إلى أمريكا ثم إلى لندن، وفي لندن بالذات التقت هذه الحيوات فتشابكت الحكايا في المدينة التي طُبخَت فيها طبخة المأساة الفلسطينية وعُقدت فيها أول عقدة في شبكة الحكايات الفلسطينية، وكأن رحى التاريخ قذفت بهم في فراغ العالم فطار كل واحد منهم باتجاه ثم سقطوا على بعضهم البعض في أحد أحياء لندن.

صدرت هذه الرواية أولاً عن "دار المدى" في بغداد عام 2018، ثم أصدرت "دار الأسوار" في عكا الطبعة الخاصة بفلسطين عام 2019. والكاتبة سلوى الجراح عادةً ما تلقي بنفسها في رواياتها، ولذا فإن معظم قرائها يظنون أن رواياتها هي مقاطع من سيرتها الذاتية، الأمر الذي حدا بها إلى كتابة سيرتها الذاتية بعنوان "لملمة أوراق تبعثرت" في عام 2017 (صدرت أيضاً عن "دار الأسوار" في عكا عام 2018)، دافعت فيها عن "خيالية" رواياتها وعن حقها في استخدام تجاربها الشخصية في تشكيل شخصياتها الروائية. إلا أن التشابه (والتطابُق) بين الحياة الشخصية لسلوى الجراح وبين شخصيات هذه الرواية لا يمكن إهماله أو التغاضي عنه، فسلوى الجراح فلسطينية عكاوية ولدت في أحد مستشفيات حيفا عام 1946، لأب كان يعمل موظفاً في مكاتب شركة نفط العراق في غزة، وفي عام 1948 انتقلت مع عائلتها إلى طرابلس في شمال لبنان، ومن هناك إلى منطقة برج البراجنة بالقرب من بيروت، ثم في عام 1950 انتقلت إلى البصرة في العراق، ومنها إلى كركوك ثم إلى بغداد حيث حصلت على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي من جامعة الحكمة للآباء اليسوعيين، وبعد زواجها انتقلت إلى لندن عام 1977 وبدأت بالعمل في القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي)، وما لبثت أن أصبحت واحدة من ألمع المذيعات ومعدات البرامج العربيات في البي بي سي، فأعدَّت وقدَّمت برامج يذكرها جيداً أبناء جيل الثمانينات والتسعينات، مثل "في الواحة" و"موزاييك" و"ساعة حرة" و"ندوة المستمعين"، وفي عام 1994 أعدَّت وقدَّمت برنامجاً إذاعياً كسرت فيه أعقد التابوهات في العالم العربي فأحدث ضجة كبرى وأصبح حديث الناس في حينه، وهو برنامج "عن الجنس بصراحة". ومن خلال برامجها التقت سلوى الجراح بأعظم وأشهر الشخصيات الفنية والثقافية في العالم العربي، نذكر منهم نجيب محفوظ، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد بهاء الدين، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، ولطفي الخولي، ويحيى حقي، وأنسي الحاج، وبلند الحيدري، ونزار قباني، وإميل حبيبي، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، ونضال أشقر، والمخرج يوسف شاهين، والمغنية صباح، والفنانين أحمد مظهر ومحمد رشدي، وغيرهم. وفي عام 1999 تقاعدت سلوى الجراح مبكراً من عملها في البي بي سي وتفرغت للتمثيل المسرحي ولتأليف الروايات، فصدرت لها أول رواية عام 2005 بعنوان "الفصل الخامس" ثم تبعتها "صخور الشاطئ" (2007)، و"بلا شطآن" (2012)، و"صورة في ماء ساكن" (2014)، و"أبواب ضيقة" (2016)، و"حين تتشابك الحكايا" (2018).

إنها رواية متينة الحبكة جميلة الصياغة شيّقة في تناولها الشخصي للتاريخ الفلسطيني، وكما قال عنها الكاتب العراقي عامر الصفار: "لغتها سهلة شفافة واقعية، ليس فيها إطناب أو إسهاب في غير محله، تبتعد عن المجاز والاستعارة والشاعرية لتضع القارئ في صلب الحكاية، وعليه ففي لغة الرواية إقناع وانسجام يعطي للمتلقي القدرة على الفهم."

مأخذي الوحيد هو أن الكاتبة تختصر الوصف في نهاية الرواية بشكل مبالغ فيه، وكأن الكاتبة في عجلة من أمرها تريد أن تنهي الرواية بأسرع ما يمكن، فهي التي تسهب كل الإسهاب في وصف سفراتها إلى عمان والقاهرة وغزة، تزور عكا وحيفا ويافا والناصرة وتغادر إلى طولكرم في فقرة واحدة قصيرة محشوة بأوصاف من "الكليشيهات" الممضوغة (ص 109). لربما كان ذلك ناجماً عن كونها كانت قد وصفت هذه الرحلة بإسهاب في رواية أخرى ولا تريد أن تكرر الوصف، إلا أن ذلك لا يشفع لها هذا التقصير، لأن القارئ يتعامل مع كل رواية كعمل قائم بذاته ويطالبه بأن يكون كذلك.

لا شك أن هذه الرواية وروايات سلوى الجراح الأخرى تسهم بشكل حاسم في الرفع من مستوى الرواية الفلسطينية وتخليصها من مستنقع الإسفاف الذي أوقعها فيه غرور بعض المتطاولين على هذا الأدب الرفيع.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]