كتب بشير صفير في "الأخبار" حياة بلا موسيقى موت. الإنسان، طالما هو حيّ، هو في هذا الوجود مركبٌ لا يغرق. قد يتعارك مع مزاج الطبيعة، قد يرتطم، قد يتكسّر، قد يتشلّع، لكنه لا يغرق. إنه مشدودٌ صوب شاطئٍ ما، بخيط من نور رَمَته إليه منارة الأمل. الأمل لا يغيب ويشرق. الأمل بصيص نورٍ يكبر ببطءٍ. يكبر أحياناً لمجرّد الإصرار على النظر باتجاهه. يكبر فقط بنظر الناظر إليه. له هذه الخاصّية وهذا التأثير، وهنا يكمن سرّه غير المحكوم بقوانين العلم، ونحن محكومون به. بالنسبة إلى البعض، هذا الأمل هو الموسيقى. أو هكذا يجب أن يكون بالنسبة إلى الجميع.
وباء، انهيار اقتصادي، انفجار، ذلّ، جوع، تشرّد، دموع، أوجاع، كآبة… وأمل. كل ذلك والأمل موجود بوقاحة منفِّرة أحياناً. الأمل بلا حياء، لا يمكن التعويل على لياقته ليفهم انعدام الرغبة بوجوده. حسناً، فلنتعامل معه على هذا الأساس. على أساس أنه لن يتركنا ويذهب بسبيله. فلنسمع بعض الموسيقى… وها هي تأتينا، اليوم، من ««البستان»، المهرجان العريق والأنيق الذي ينطلق الليلة بدورةٍ تحمل عنواناً يشرح ما مرّ به في السنتَين الأخيرتَين: Reconnect (إعادة الوَصْل أو التواصل).
من أي طريق عاد «مهرجان البستان»؟ يمكن القول إن للعراقة والمثابرة والمعاملة الحسنة والسمعة الجيّدة رصيداً كبيراً وثقلاً موزِناً، يمكن التعويل عليهما في ظروف مماثلة. فالمهرجان عاد إلى النشاط بفضل تاريخه بشكل أساسي. معظم الفنانين الذين لبّوا الدعوة إلى بلد مجهول ومنكوب، إنّما لبّوا الدعوة إلى بلد يعرفونه بفعل مشاركات سابقة. بمعنى آخر، الزيارة الأولى تفتح صفحة صداقة بين الداعي والمدعوّ. والصديق، كما تعلمون وكما اختبرتم ربّما، وقت الضيق. فثمة صداقة باتت تربط المهرجان (بناسه وتاريخه ومهنيّته)، بالغالبية الساحقة من الأسماء التي تحييه اليوم من خلال إحياء أمسياته. على تلك التلّة شاركوا أعلى لحظاتهم الفنية مع بشر، على علّات بعضهم المسمّى «مخملياً»، متى أتى الحديث عن الطبقة الاجتماعية التي جعلت من الموسيقى الكلاسيكية أكسسواراً ضرورياً لمزيد من الرقيّ. في حين أنّ الكلاسيك، كأيّ موسيقى محترمة، ليس سوى مادة صوتية تطير بنا إلى أبعد ما يكون عن المادّة، وهي من صنع عمالقة، بعضهم فقراء بالمادّة وأثرياء بكل ما تبقّى، على رأسهم ثلاثي التفاني والتعب والقهر والعَوَز (بيتهوفن) والديون (موزار) والكفاح في سبيل العيش (باخ): باخ، موزار وبيتهوفن.
في الشتاء القارس، بدأت أزهار ««البستان» تتفتّح وسْط العواصف. هي براعم تحمل كل المقوّمات التي ستجعلها وروداً جميلة يوماً ما، كما كانت دوماً. لكن، متى؟
[email protected]
أضف تعليق