نصري الصايغ
يبدو أن الأفق مغلق. لن نستعيد لبنان الذي مضى، ولا إرهاصات تفصح عن بصيص أمل. بات معروفاً أن لبنان مات مراراً ثم عاد، لكن بصورة أكثر تشوهاً وبؤساً. دائماً، كان ماضيه البائس أفضل من حاضره التاعس ومستقبله الأعمى.
من كل الجهات حصار. “الأخوة الاعداء” في الداخل، الكمائن منتشرة، والسؤال، متى يندلع الموت. هذه المرة، قتلى فقط، لا شهداء البتة. المعارك، ليست حرباً. هناك ميت لا يموت، وهناك احياء يموتون. القتلة مقيمون في مكاتبهم وبلادهم وقبضاتهم. الطريقة الفضلى عندهم، “دعهم يختنقون”. الطريق الى الخلاص مقطوع. الحواجز الداخلية مستمرة وممسوكة من طوائف مترعة بالأحقاد والغدر والتكاذب، ومن بلاد، تريد بيروت، ممراً لعواصم، مرضعة الفتن والحصار والجوع.. هذا هو لبنان، حتى الآن. لا أفق داخلياً، الاعدقاء العرب، تتشابه قسماتهم مع لغتهم: اخضعوا او قولوا وداعاً، لا حل خلف ابواب العواصم، من المحيط إلى الخليج، او من عواصم النار بديلاً عن الدولار.
لا عودة إلى الماضي إذا، ولا بصيص في الأفق. إذا ماذا!
فلنفترض حفنة من التفاؤل. ولنقنع اهل التصويب باللغة والتصويب بالعنف، أن هذا مشهد مستعار. اللبنانيون استضافوا كل المشكلات والقضايا المستحيلة، واحرقوا مع “حلفائهم” الذين خانوهم، لبنان الماضي. حريق 15 عاماً نسيناه، أو بالأحرى محيناه، او بالتحديد، حرمونا من اخذ العبر.. فاعتبروا يا أولي الألباب.
لنبدأ المحاولة، ولنقل لهم بوضوح، فهمناكم جيداً، أكنتم في هذا المعسكر المقفل، او في ذلك المعسكر المتأجج، صوتاً وخطاباً وواقعاً. نعم فهمناكم جيداً. حفظنا ما تدفق من كلماتكم في خلال عام تقريباً. كلام صاخب يواجهه كلام اشد صخباً. ولا نتائج ابداً، للمعسكرين المتخندقين لبنانياً واقليمياً. واضيف إلى ذلك، أن الخنادق اتقنت العبور من بيروت إلى السعودية، فالإمارات فدول الخليج، إلى واشنطن وطهران والى آخره. ومع ذلك، فبدل أن يحظى المعسكران بحكمة “الحكماء”، ركبوا موجة الانتقام بالكلام وهندسوا سياساتهم على المزيد من العقوبات.
معسكر يقول في سره: “عاقبونا”، ومعسكر في سره يقول: “مش فارقة معانا”. هذا هو الوضع بكل وضوح، لأن استعمال السلاح عاقبته وخيمة. قد لا يربح أحد. الخاسرون معروفون: “الشعب” اللبناني بكل طوائفه ورهاناته ورعونة قادته.
سؤال: هل الاجواء المحمومة والمحضونة اقليمياً ودولياً، ستسفر عن حل؟ الحل العسكري انتحار جماعي. الحلول الطائفية متوقعة، ولكن مسارها لم يجد بعد نقطة الصفر لينطلق منها، ما عرضه الرئيس ميشال عون، ينطبق عليه ” فات الآوان”، وهذا “حصرم رأيته في حلب”. لا حوار من فوق الاسوار. والطوائف اسوار. الحوار قد يبدأ، بعد أن يتيقن الجميع أن الاستمرار في الخندق الطائفي، الاقليمي، الدولي، سيؤدي إلى وبال. لبنان المقتول الآن، بسياسات المقاولة، سيقُتل مرة ثانية بسياسات التطييف والتحاقد، والحسابات المغلوطة.. للتذكير: أنتم قادة اليوم، جرّبتم القتال وخضتم المعارك، وما حصدتم الا الخيبة. أنتم بحاجة دائمة إلى أوصياء.
فلنجرّب الاسئلة الصعبة، هل ممكن أن يتحاور الاعداء في الداخل، ويضعوا لائحة بالقضايا الخلافية وتأسيس حلقات حوار، حول كل النقاط المثارة. لكل فريق خلفية ثقافية او فكرية او دينية أو مرجعية تاريخية، خاصة الأعداء، قادوا لبنان إلى حتفه الراهن، ما حصة كل فريق في هذه المقتلة المستدامة بلا بنادق. لبنان جثا على ركبتيه وزحف على بطنه، وقد كنتم أنتم قادة هذا الانزلاق والانهيار. لم يعد لبنان وطناً ممكناً. صار منصة للموت والضياع والغربة واليأس. ما جناه اللبنانيون منكم جميعاً، هو هذا الانهيار، ومن ثم، اعتلاء المنصات الاعلامية الداشرة، بل والعاهرة، لاتهام الخصوم بالبلاء، وتبرئة الذات من الوباء الذي أنجب موتاً زاحفاً، وشعباً يحلم فقط، بأن تتوقف الكارثة هنا، ولا تستمر إلى ما بعد موت اكيد.
لنسأل: لماذا لا يتداعى الاعداء او الخصوم (تلطيفاً) إلى حوار ثنائي، حوار جدي يبحث عن المشترك والبناء عليه، وليس يبدأ بالمقلوب، كأن تثار المشكلات والقضايا الحادة التي هي موضع منازلة يومية، واشتباك اقليمي وتدخل دولي.
على ماذا يمكن أن تتفقوا؟ ثم، محاولة قراءة ما سيحدث من كوارث من دون أن يفوز أحد على أحد، كما جرت العادة، لعل النظر إلى المستقبل الجهنمي، يرشد اصحاب الزناد، لتذكر مطحنة الدم اللبناني، أكثر من 120 ألف قتيل، 800 ألف مهجر، آلاف المخطوفين، نزوح طائفي كثيف. تغير ديموغرافي، خراب ودمار. استشهاد بيروت وقتل وسطها التجاري. جرف قرى بكاملها، ايتام وارامل وشهداء وماذا نقول بعد.. تعلموا فقط مما صنعته ايديكم في الحرب اللبنانية الكبرى، التي عرفت جيوشا تدخلت، وهي لا تحصى. هي خرجت سالمة وتحطم لبنان.
سيقال: هذا خيال.
صح. هذا خيال، ولكنه ليس غلطاً ابداً. السياسة هي فن الممكن. وليست فن المستحيل. من يطالب ليغلب الحلم، واهم. الحوار هو الوسيلة الفضلى. قولوا لبعضكم على ماذا أنتم مختلفون؟ على كل شيء؟ قولوها. ضعوها ضمن تسلسل يبدأ بالسهل لينتهي بالصعب او بالمستحيل. اكرر. السياسة فن الممكن. طلب المستحيل نحر وانتحار.
بعد جرد القضايا الخلافية، الداخلية والخارجية، يصار إلى تفاهم، من شرطه الأول، أن يكون قابلاً للتنفيذ. أي أن يكون بتصرف اللبنانيين وحدهم. اما القضايا الخلافية الكبرى. المتعلقة بالصراعات الاقليمية والدولية، فلا بد من قراءتها على قاعدة اساسية، مصلحة لبنان اللبناني، شعباً وارضاً ومؤسسات مصانة. وان يتفهم كل طرف طائفي انتماءات الاطراف جميعاً. ليس بمقدور لبنان؛ كل لبنان، الرسمي والشعبي والطائفي، أن يكون في خندق اقليمي واحد. كينونة الاطراف اللبنانية، يشوبها التعدد والتعادي. لا يستطيع السني أن يكون اقليميا مع إيران الشيعية ولا يعقل أن يكون الشيعي مع السعودية ودول الخليج السنية، ولا يعقل أن يكون المسيحي، الذي أنشئ الكيان لحمايته وتبديد مخاوفه من العروبة والاسلام.. هذا ليس دخيلاً ابداً. وليس خياراً ابداً. هذا إرث التخلف الذي عايشناه، لأننا لم نكن دولة، ولم نرب مواطنا، ولا أمّنا الديمقراطية.
إذاً، لا بد من البحث عن تسوية. والتسوية غير ممكنة اليوم من الخارج. معارك الاقليم أعنف وأقسى من كل المعارك من أساطيل وجيوش ودول شتى منخرطة بالقتال.. نحن نستطيع فقط أن نعتبر. كن مع من تشأ في الخارج، وامتنع عن جر الخارج إلى الداخل، لأنه سيجرك إلى مثواك. سيتحول لبنان إلى ما لا تحمد عقباه.
هل هذا الخرف؟
ربما. ربما هو فقط حبر على ورق. صح. ولكني احاول أن انطح الصخر. صخرة العداء والحقد بين “الاخوة الاعداء”.
تصّوروا فقط، حواراً سياسياً شيعياً سنياً، او “حزب الله” مع “القوات اللبنانية”، او درزياً شيعياً، او.. ألا تتصورون أن إلفة ما ستكون بين مختلفين ومتفهمين غير معادين. العداء، مجلبة للمشكلات “شوفوا لبنانكن شو مرتْ”، كما يقول كثيرون.
اخيرا. فليعذرنا العلمانيون والديموقراطيون، اليساريون أن كنا قد خرجنا عن الصراط المستقيم، (علماً أن لا صراط مستقيما في السياسة ابداً). دورهم سيأتي بسهولة، إذا بلغ “الاعدقاء” مرحلة السلم الطائفي، الذي يوفر للقوى الحية دولة (ليس عندنا دولة) ونظاماً ديموقراطياً، وقضاء حراً نزيهاً.. والى آخره.
أخشى أن تكون النتيجة لهذا الوهم الجميل، على مستحيلين:
مستحيل داخلي، ومستحيل خارجي.
عندها، على لبنان السلام.
[email protected]
أضف تعليق