أراه الشاعر مُصادِرًا جسد الأرض على حافة حلم، وفي "حالة هيام في الغمام غير المتناهي"، كما جاء في مقدمة الزميل نايف خوري. أحاول بدوري أن أقتني مفتاحًا من هذه المفاتيح،لا لشيء إلاّ كي أسبر أنوار نصّ أثار الجدل، وتجاوزتُ المقدّمة كي لا تتداخل المفاتيح وتتوه في تبيان خاصّتنا من المفاتيح، وأقف أمام الجملة ص 15:
أَوقَفَني الصُّوفِيُّ، على حافّةِ الْحُلُمِ.
كانَ هائمًا يَحمِلُ نَهرَ الْأُردُنّ،
مُتَوَّجًا مِنَ السَّمَاءِ،
قَاصِدًا أَرضَ كِنعَانَ..
من الذي أوقفه؟ الصوفيّ؟ أين؟ على حافة حلم؟ أي مابين يقظة ونوم يراه الشاعر هائمًا، يحمل فوق ظهره نهر الأردن إلى أين؟ إلى أرض كنعان؟ فلسطين لما تزل هي الأخرى في ذاكرة الشاعر وفي خاطرته أيقونة على حافة حلم هائم، ترتب ذاك لنهر المتدفق كي تغتسل من خطاياها، وما يفعل بها على مرأى وعلى مسمع دقات القلوب، بانتظار عدالة مُتوّجة من السماء، أو حتى بدعوة للصعود إلى العدالة نصًّا وحُلمًا وأمانيا، كي نخاطب تلك العدالة ونحاورها تمامًا كما يحاورنا الصدى والمدى.
هكذا يوحي إلينا النص بمفرداته البلاغيّة وصوره الشعريّة الشاعريّة، ويستفزّنا كي نحاول معه أن نجد لنا لغة أخرى تُشاغل الريح، حتى لو كانت هذه المُشاغلة والمُساءلة من خلال "قميص نخيطه من زفرات وأنين جسد الأرض، كي نصنع من أجسادنا نحن جسرًا نعبر فوقه إلى كلّ أولائك وهؤلاء، والذين نتمنى أن تدوسهم الخيول الجوامح من أمانيهم، والذين ما زالوا يَعْدون ما بين ريح وغمام، وتتوه الأمكنة والأزمنة في مناطق السراب".
إذن هي لوحة من أماني الروحانيّات حبيسة تتصارع في ضجر، تستصرخ مداد حبره كي يلوّنها ويُخرجها بطاقة لولوج العوالم الأخرى، التي يختار أن يوظفها لخدمة أمانٍ على حافة حلم، فتغدو ملحمته شفافة مرهفة تحمل في رحمها أسمى آيات الغربة والمنافي. إنّها حقا مساحة من حلم، "كما اليمام تنام على شرفة بحر، وكما الأطفال تلهو بنشيد، إنه النشيد الآخر الذي يرسم ويُلوّن بأصابع الكائنات، ويعزف على أوتار غابات الريح، وأيضًا على أوتار الأفق الأبعد من مداه".
حين يعلن وهيب وهبة من بين حوافر التاريخ وضجيج الانتظار، أنّ الفرح العاصف أتٍ، أهتف وأنا كلي إيمان، وأعرف لماذا يحمل الصوفيّ فوق ظهره نهر الأردن، قاصدًا أرض كنعان، وعند حافة الحلم يا وهيب وهبة تتشابك الأماني والأحزان، فنرانا قد غدَوْنا نستقدم الصوفيّة المُطهّرة المُنزّهة من كلّ رجس، كي تطلعنا على ما وراء الأفق، وكي تخبرنا أننا على مرمى قصيدة، ونصل حنجرة الأماني، ونعلن أننا قد تمكنّا من القبض على الفرح، وأطلقنا العنان لنشيد الملكوت وإنني أصلي.
على حافة حلم نرجسيّ فوق صخرة تقاوم في وجه الريح، تظلّ الملحمة تُسابق حروفها الروحيّة، بانتظار المسيح القادم للخلاص، وقد هاله ما على جسد الأرض من جراح، "والتاج الأزرق في يديك وعينيك يشكّل الأرض"، وكأني بوهيب هنا مستغيثًا بالله أن يرسل أسرابًا من الملائكة، كي تنشر الحبّ والسلام والمحبّة، وكأني به خالق صورة لهذا الواقع المعيش، وهذه الحالة التي آل إليها بنو البشر، حيث عادوا إلى ما قبل الرسالات والرسل والأنبياء، والأنكى أننا بتنا نتكئ على عكاز معتقداتنا، وكلٌّ يُغلّب شرائعه تمامًا كما يُغني كلنا موّاله لليلاه ولمولاه ولشيخه وفتواه، حتى بات لكلّ عائلة شيخ، ولكلّ فرد قاضيًا يُفتي له ويُدرّسه أمورَ دينه ودنياه. ولا عجب في هذه الحالة من الضياع والتشرذم وعدم الاستقرار وغياب الطمأنينة والهدوء الروحيّ والنفسيّ، لا عجب أن يجلس وهيب وهبة ونجلس معه على حافة حلم نحاور الصوفيّ ويحاورنا، ونأخذه ويأخذنا الاستهجان "مستوطنا الأماني"، مشتعلا بشمس من وهج النار تصحو وتغفو على ملاعب القمر، وأيّ قمر وأي شمس هذه التي يرنو إليها الشاعر متداخلا بين النص والحلم؟
وبقفزة سريعة إلى الناصرة، يداه في الأفق الأبعد من مداه يطلبه حثيثا، ويرجوه رمزا على حافة أرجوحة تهتز في ليل معلق، "يرنو إلى فرح يراقصه حتى طلوع الشمس وطلوع النهار، إذن في فورة من الحلم والرجاء يظل الشاعر مستندا إلى الرمز والخلاص من ملحمة ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
"يداه النبع الآخر عند المنحدر/ آتيا حاملا قناديل الكلمات ومصباح من بلور"، تلك إشارة ودلالة لا تحتمل الإيحاء أو التأويل، من أن رغبة الشاعر في أن يرى الأرض حقولا من حروف، وكروما من كلمات، وبساتين لغة تبشر بعالم جديد خالٍ من الحقد والأحقاد، هذا هو وهيب الشاعر الذي رأيته باحثا عن إنسانية الإنسان في مناشدة روحية تملؤه حتى الثمالة، وتُسكره حتى الوصول إلى حافة حلم، فيعيش لحظاته تلك متنقلا متفردا في بحثه وخصوصياته، مستنبطا أسلوبا جديدا، كافرا بكلّ المسميات الأدبية الأخرى التي لم توصله، كما لم توصل رسالات الآخرين، وكان بعودته إلى الروحانيات نصّا وأسلوبا آخر سلاح يُصوّبه في وجه الواقع الذي يسعى لتغييره، مستخدما عذرية مريم من عذرية أرض كنعان، ونصرة الناصرة من نصرة المسيح، ومن البشارة بشرى لأمل قادم مع غناء جوقة الملائكة، "تراقص الخيول الغابرة"، أسمع صهيل الخيل الراكضة وراء جوق الملائكة، إذن هي الرموز مجتمعه تهفو إليها الروح، "تغادرنا أرواحنا ما بين الطرقات والمسافات وما بين الروح والجسد، "هي ثورة الأرض عاصفة في تبديل الفصول، وعادلة في تبديل الظلمات بنار العدل ومجد افراح المحبة"، وهنا أقول أن لكل أديب أو شاعر أو مبدع حرية الرؤيا واستحضار النص الذي يشاء، ما دام هذا النص لا يتعرض لعقائد الآخرين.
ذلك، لأنني لم أجد النص إلاّ ملتزما كل الالتزام بأدواته الفنية والإبداعية، وإن اختار الشاعر حياة السيد المسيح الحافلة بالعذابات، فإن هناك رسالة قوية مليئة بالرمزية الهادفة والصادقة لمدلولات القضية الأم، حيث وضع لنا وهيب وهبة من مداد حبر الكلمات ثورة الأرض، كما اعتادت ثورة الفصول وتبديلها، وكأني به يقول أن ما يحدث لنا جميعا في هذه البقعة الكونية، ما هو إلاّ نتاج ظلم ارتكبناه بحق أنفسنا وديننا ودنيانا وعقائدنا وكينونتنا، وهنا أيضا أراه مسلما بمسلمات آنية لم تزل على أرجوحة حافة حلم، حين يقول: "أترُكُ القَصِيدَةَ وَحِيدَةً. أُشعِلُ شَمعَةً .. أمامَ النُّجُومِ التِي نَزَلَتْ ذَات صَبَاحٍ واغتَسَلَتْ فِي البَحْرِ. حَتى خَرَجَت أَكثرَ لَمَعانًا وَبَهاءً وَضُوءًا... كي تُنيرَ كُلَّ طَريقٍ وَمَفرَقٍ وَشَجَرٍ وَأصغَرَ، أَصغَرَ حَصى، أَمَام دَربِ السَّيدةِ"، ص 21 مستقدما درب السيدة العذراء مريم، التي خصها الله بسورة مريم، تماما كما خصّ بيتها وآل عمران بسورة أخرى، وخص معجزة المائدة فأحببناها مريم، وأحببنا ولدها مخلصا مبشرا ونذيرا، "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا"، هكذا إذن نجده النص كمرايا البلور وكما المنارة مستوطن بالوحي، والرمزية بنار النور سماء بيت لحم والسيدة تعانق الظلام، وهنا تتجلى براعة البلاغة في التماهي والتناص وحتى الاستعارة الصورية، فنرانا قضية تبحث عن مبيت قضية تطوف الشوارع والحارات والدول والمنظمات، وكلها صرخات ليل الريح تتبعها من كل حدب وصوب، هي قضية أنثى كان اسمها مريم، وكانت تحمل في رحمها روحا من الله نبيا قادما ومخلصا للعذابات.
هكذا قرأتها ملحمتك الشعرية، وهكذا سمعتها مع كل الأقاليم من أيام الفرس وانتشار المغول وهولاكو، وكل من طمع بها وجاءها غازيا، حتى آخر طامع لم يزل يجاهد بخطيئته، ولا يجد من يُذكّره أن الزمن العاصف آت وأنا كلي ايمان.
إذن هي رسالة لى أولادك القادمين الذين ظلوا والذين رحلوا، يقول وهيب "النور بين أيادينا يستوطن فضاءاتنا، ولكنا عمينا فلم نعد نراه"، أغلقت المدينة أبوابها ونامت ونام سكانها على العتمة، والشوارع والطرقات هاجرت المكان"، ومن هذه الظلمات ينبثق النور، "من تلك المغارة المتواضعة أشرقت شمس الحرية" ص 22، وفي ص 23 يعيدنا الشاعر الى القضية من جذورها، حين "تحضنه السيدة خوفا ويأتي الحلم كما الأسطورة، "خذ ما استطعت واحمل صغيرك وارحل أمامك مصر". لماذا مصر؟ وما علاقة مصر بالذات مع السيد المسيح والسيدة العذراء والبشارة؟
هذه رموز أتركها على حافة حلم آخر يراوده عن نفسه، في ليل تأرجحت فيه الأحلام ما بين يقظة ونوم، وظللنا نحن وهواجسنا نشاغلها وتشاغلنا، إلى "أن تستيقظ نفس الإنسان وتخضع لمحبة الله".
هكذا من ملحمة ميلاد السيد المسيح عليه السلام نرانا قضية تطوف ارجاء مملكة أبناء كنعان، بلُغتها نصًا وروحا وقلبا وقالبا، على الأقل من وجهة نظر قراءة ذاتية، "وداخلُهُ زمن مضى، وخارجه زمن يأتي والإنسان يأتي ويمضي" ص 24، وعطر رذاذ الكلمات يشق جبين الصباح وعتمات الغسق. نهض الصوفي من عباءة الغيب مبتلا بالحكمة، متوجا بالدمع وقال، اتبعني... وجهتي الآن طريق النور".
خلاصة القول هي قضيتنا الأولى والأخيرة من خلال ميلاد السيد المسيح، في توظيف ينأى عن الابتذال، بل يرتفع كي يلامس أرجوحة الواقع.
أخيرًا أشكر الشاعر وهيب وهبة الإنسان ذا الحس المرهف وأقول، أتراني انحدرت في مداركي إلى متاهات وأنفاق أخرى؟ هي محاولة وكلّ محاولة هي خطوة سفر من الأسفار، على هذه الأرض التي كانت ذات يوم، وأضحت في سفر وترحال.
[email protected]
أضف تعليق