لماذا كان اهتِمام الشعب الفِلسطيني باعتِرافات الجندي الأسير شاليط أكبر بكثير من اهتِمامهم بخِطاب عبّاس في الأمم المتحدة؟ وماذا تعني الاعتِرافات وتزامنها مع تصاعد التّهديدات باحتِلال قِطاع غزّة مُجَدَّدًا؟ وكيف سيكون وقع صفقة تبادل الأسرى القادمة مع السّلطة إذا شَمِلَت البرغوثي وأبطال النّفق؟
عبد الباري عطوان
كان لافتًا أنّ الشعب الفِلسطيني، داخِل الأراضي المُحتلّة وخارجها، لم يُعِر أيّ اهتِمام يُذكَر لخِطاب الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس أمام الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة الذي ألقاه مساء أمس، ليس لأنّه لم يأتِ بأيّ جديد، وكان ربّما أسوأ من جميع الخِطابات السّابقة، وإنّما لأنّه أسقط السّلطة من جميع حِساباته، وبات لا يَشعُر بأيّ انتِماءٍ لها، وانعكَست هذه المُبالاة بمُطالبة أكثر من 80 بالمئة منه، في آخِر استِطلاعات الرأي، برحيل الرئيس عبّاس.
تطوّران رئيسيّان يحتلّان مكانةً بارزةً في المشهد الفِلسطيني الحافِل بالحِراك وعلى مُختلف الجبهات هذه الأيّام، وكانا محور اهتِمام الرأي العام الفِلسطيني بالدّرجة الأُولى، والغربيّ بالدّرجة الثّانية:
الأول: المعلومات الجديدة التي كشفها لأوّل مرّة، وبعد صمت استمرّ عشر سنوات، الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الأسير السّابق لدى حركة “حماس”، حول ظُروف أسره، وفي مُقابلةٍ مع “القناة الإسرائيليّة 12” يوم أمس، وتزامنها، أيّ المعلومات، مع نشاط مُكثّف، في ملف الأسرى الإسرائيليين الأربعة المُحتَجزين لدى “حماس” (جُثّتان لجنديين واثنين أحياء)، واستِجدائها، أيّ دولة الاحتِلال، لأربع دول (مِصر، تركيا، قطر، ألمانيا) للتوسّط للإفراج عنهم بأسرعِ وَقتٍ مُمكن.
الثاني: تصاعد التهديدات الإسرائيليّة، من قِبَل رئيس الحُكومة نفتالي بينيت، ووزير جيشه بيني غانتس، علاوةً على جِنرالات مُتقاعدين، بإعادة احتِلال قِطاع غزّة، بعد فشل جميع الخِيارات الأُخرى في إخافة فصائل المُقاومة، مِثل الغارات الجويّة والقصف المدفعي.
***
ما كشفه الأسير شاليط، بالصّوت والصّورة، يُؤكّد مدى حكمة آسريه من حركة “حماس”، ونجاحهم في إخفائه خمس سنوات، في قِطاعٍ لا تزيد مِساحته عن 150 ميلًا مُرَبَّعًا، ويُعتَبر أكثر مناطق العالم ازدحامًا، (مِليونا ونِصف المِليون مُواطن) حيث لا غابات ولا جبال ولا كُهوف، وإخفاؤه عن من؟ عن دولةٍ تعتبر نفسها الأكثر خِبرةً في ميادين الأمن في العالم، وتُحَلِّق طائرات تجسّسها ليل نهار في سماء القِطاع المُحتَل.
شاليط لم يتحدّث مُطلقًا عن أيّ مُحاولات لتعذيبه، أو إهانته في فترة الاعتِقال، ولم ينطق بكلمةٍ سيّئة عن آسريه وحُرّاسه، بل أكّد أنّهم عاملوه مُعاملةً جيّدة، وقدّموا له الحمّص واللّبن، والطّعام اليهودي الحلال “الكوشر”، وحرصوا أن يبقى حيًّا وبصحّةٍ جيّدة، لأنّ “ثمن الجندي الأسير الحيّ أغلى بكثير من الميّت” على حدّ قوله، وعلم بأنباء قُرب الإفراج عنه في صفقة تبادل (تمّ الإفراج عن 1027 أسيرًا فِلسطينيًّا بينهم يحيى السنوار) من خلال جهاز راديو كان هديّة من خاطِفيه.
إخفاءه لخمس سنوات عن عُيون الإسرائيليين، وجواسيسهم، وأقمارهم الصناعيّة، يُعتَبر إنجازًا أمنيًّا على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، لأنّه يُشَكِّل هزيمةً كُبرى لدولة الاحتِلال وأجهزتها، ويُؤكّد تَقَدُّمًا استخباريًّا فِلسطينيًّا في المُقابل، تعزز هذا التقدّم بعمليّة أبطال نفق الحُريّة الستّة الذين وجّهوا ضربةً شبه قاضية لهذه الأجهزة الإسرائيليّة “المنفوخة” بغُرورٍ أمنيٍّ استعلائيّ كاذب.
هذا التقدّم الأمني المُتنامي في المُعسكَر الفِلسطيني المُقاوم، يُوازيه تقدّم عسكري أيضًا، يتمثّل في تطوّر صواريخ المُقاومة، وقوّة الرّدع التي حقّقتها، والأهم من كل ذلك، وجود الإرادة القويّة لدى قِيادتها لاتّخاذ قرار الضّغط على أزرارها (الصواريخ) في الوقت المُناسب للدّفاع عن المُقدّسات والرّد على أيّ عُدوان إسرائيلي في الضفّة والقِطاع وربّما جنوب لبنان لاحقًا.
القِيادة الإسرائيليّة، بشقّيها السياسي والعسكري، تُهَدِّد باجتِياح القطاع مُنذ 16 عامًا، وبالتّحديد مُنذ انسِحاب قوُاتها ومُستوطنيها مهزومين منه في أيلول (سبتمبر) عام 2005، ولم تُنَفِّذ أيّ من هذه التّهديدات خوفًا من الثّمن الباهِظ الذي يُمكِن أن تدفعه، فدُخول القِطاع ليس مِثل الخُروج منه، علمًا أن فصائل المُقاومة في السّنوات الأولى التي تَبِعَت الانسِحاب لم تملك القُدرة الدفاعيّة والهُجوميّة والصاروخيّة الحاليّة، وتُدرِك هذه القيادة جيّدًا أن استراتيجيّة فصائل المُقاومة تتبلور في إغراقها في حربِ استنزافٍ طويلةِ الأمد تُؤدّي في النّهاية إلى انهِيار المشروع الصهيوني تسير بنَجاحٍ مُتسارِع.
***
صفقة تبادل الأسرى موضع البحث والوساطات الجارية حاليًّا خلف أبواب السريّة، ولكن بشُروط المُقاومة، وابرزها الإفراج عن أبطال نفق الحُريّة، ومِئات المحكومين بالمُؤبّدات، وعلى رأسهم الأسير مروان البرغوثي، وهو إفراجٌ إذا ما تم (نتحدّث هُنا عن البرغوثي تحديدًا) قد يُؤدِّي إلى إصابة الرئيس عبّاس، والمجموعة المُحيطة به، بالسّكتة القلبيّة.
أوسلو سقطت، والتّنسيق الأمني سيَلفُظ أنفاسه الأخيرة قريبًا، وحلّ الدّولتين نفق وتعفّن، والسّلطة الفلسطينيّة “حمّضت” وفاحت ريحتها، وفِلسطين، كُل فِلسطين، عائدة.. والأيّام بيننا.
[email protected]
أضف تعليق