لم يعد اللعب بالحجارة لعبة "الإكْسْ" أو "الزُّقِّيطَةْ" أو "القَعْقُورْ"، وهي ألعاب طفولتنا الفلسطينيّة الـمَحرومة من اللعب الـمُسَلّي، بل تحوّلت الى لعبة الكَرّ والفَرّ في زمن البُندقيّة والحَجَر، زمن الغاز الـمُضحك الـمُبكي القاتل، والرّصاص الـمُصوَّب الى الهواء والأرجل فقط!!؟؟، (وليس الى الصّدور كما يدّعون) ولكنّه بالرّغم من كلّ ذلك رصاص قاتل، وغاز مبكٍ مضحك.
لقد تحوّلت لعبة الحجارة من أيدي الأطفال الصّغار الى أيدي الأطفال الكبار الـمُقاتلين.. إنّها تتعدّى لعبة "داود" و"جوليات"، وتطوّرت من المقلاع والرّمح والسّيف الى الحجارة والغاز والقنابل والبارود..
أطفال المخيّم، أطفال "الوحدة 24.. حَوِّلْ" أقفلوا مداخل المخيّم أمام السّيّارات الدّاخلة وحنظلة، إبن "الشَّجَرة" الفلسطينيّة (الذي لم تستطع أنْ تَفتِك به رصاصة طائشة في رحلته، هِجْرته، تشرّده الأخير الى لندن إنْ كنتم تذكرون)، كان هذا الحنظلة يوجّه أسئلته مع باقي وحدته من "الوحدة 24.. حَوِّلْ" قائلين للدّاخلين كلمة السّرّ:
- فلسطيني ام محتلّ؟
فإذا قال لهم فلسطيني فتحوا له أبواب المخيّم الذي حرسوه وشدّدوا الحراسة عليه من عيون الحاسدين والـمُحتلّين، ولم يكتفوا بكلمة السّرّ هذه بل قالوا له: قل "ثورة حتى النّصر"، فإذا قالها نجا ودخل.
هذان التّعبيران بالنّسبة لأطفال "الوحدة 24.. حَوِّلْ" أصبحا بطاقة دخول الى المخيم الـمُـحَاصَر بنيران الدّواليب والبارود والغاز الـمُسيل للدّموع والـمُثير للضّحك لأنّه يقتل أيضاً، ويُجهض الحوامل ويمنعهنّ من إنجاب المزيد من الفلسطينيّين خوفاً من انتمائهم الى "الوحدة 24.. حَوِّلْ". واذا رفض الزّائر الكريم قول كلمة السّرّ فالويل له، فقوانين اللعبة تحتِّم عليهم الحكم عليه رمياً بالحجارة حتى يعود أدراجه مهرولاً، لأنّ اللعبة في هذه الظّروف الـمُشتعلة بالدّواليب والغاز والبارود تقتضي الحسم، فإمّا مع الاحتلال أو ضدّه.
نوادرهم كثيرة.. إنّهم شياطين "الوحدة 24.. حَوِّلْ" (الطِّفل الشّيطان هنا هو تعبير مرادف لرامي الحجارة الفلسطيني، وعندما نقول هذا الولد شيطان نقصد أنّه كثير الحركة فلا تخافوا) فقد استطاع أحد الجنود أنْ يمسك بأحدهم، ولن نذكر اسمه حتى ولو كان اسماً حركيّاً وليس اسمه الحقيقي، خوفاً عليه من عيون الحاسدين والاحتلال، وهزّه ذلك الجنديّ بحقد وغضب قائلاً:
- من قال لك أنْ تلعب هذه اللعبة؟
فزلّ لسان الطِّفل الصّغير ولم يعرف أنّ قوانين اللعبة تتطلّب الكتمان وقال بارتباك:
- أخي علّمني ذلك..
- حسناً تعال معي وعرّفْني على أخيك هذا لأعلّمه كيف يربّيك هذه التّربية القذرة..
وسارا معاً "يداً بأذن" (اصطلاح جديد بديل لاصطلاح" يدا بيد") .. لقد سحبه ذلك الجندي من أذنه وهو يكاد ينتزعها من مكانها، وكان اللقاء ممتعاً مع أخيه معلّم الحجارة..
تجمّد الجندي.. تسمّر مكانه عندما شاهد الأخ المعلّم الذي أشار اليه الأخ التّلميذ. إنّه لم يكن سوى شيطان آخر لم يبلغ بعد ثلاث سنوات من العمر.. يبدو أنّه ورث لعبة الحجارة أباً عن جد.
جُنّ جنون الجندي وصوّب بندقيّته الى الهواء وأطلق النّار، نار حقيقيّة هذه المرّة وليست مطّاطيّة، وسمع أفراد "الوحدة 24.. حَوِّلْ" الصّوت وكان الصّوت بالنّسبة لهم كلمة سرّ جديدة تنبئهم باقتراب الخطر، فصوّبوا حجارتهم باتّجاه صوت الرّصاص فولّى الجندي هارباً، وسقط أحد "الشّياطين" مضرّجاً بدمائه، بالرّغم من أنّ الرّصاصة أُطلِقت في الهواء. كيف قتلته رصاصة طائشة في الهواء؟ هذا ما لم يستطع أنْ يفسّره أحد. حتى القائد العام الأعظم، وحتى وزير الدّفاع بلحمه وشحمه ودمه وعبقريّته استغرب ذلك، ولم يَستطِع أنْ يفسّر كيف يمكن لطفل شيطان أنْ يُقتل رمياً بالرّصاص بدون أنْ يُطلق الرّصاص باتّجاهه بل في الهواء، مع العلم أنّ الجندي لم يُقتَل عندما أُطلقت الحجارة باتّجاهه وليس في الهواء.. سبحانه في ملكه وللّه في خلقه شؤون، ولا حول ولا قوّة في الحجر بل في الرّصاصة..
إنّها حقا أعجوبة تستحق التّسجيل في كتاب العجائب لأنّها لا تقلّ عجباً عن هراوة أو عصا موسى السّحرية التي شقّت البحر الأحمر الى نصفين، والتي هي أيضاً لم يستطع وزير الدّفاع أنْ يفسّر كيف حدثت.. على المؤمن أنْ يصدّق ما ينزل من الأعالي حتى القاتل منه كالرّصاص.
****
أصوات.. همْس.. حصى تتدحرج فوق سطوح المخيّم.. الطّقس ماطر.. الظّلام دامس، والضّباب يغطّي المخيم بالرّغم من الكشّافات الكبيرة من الإضاءة السّاطعة التي كانت تبحلق بداخل المخيّم بأقصى ما عندها من إضاءة لتفتّش عن أيّة حركة قد يحدثها أبناء المخيّم وأطفاله "الشّياطين" الذين لا تغمض لهم عين..
همْس.. أصوات.. وحصى تتدحرج فوق سطوح المخيّم والجنود يقرفصون في خيامهم الـمُحيطة بالمخيّم من كلّ حدب وصوب "لتحرسه" من حجارته وخوفاً منه عليهم، حراسة 24 ساعة يوميّاً، مقابل "الوحدة 24.. حَوِّلْ" وأيديهم على الزّناد.. يد على الزّناد.. يد على زناد الحجر، ويد على زناد البندقيّة. أيدي الفريقين على أهبة الاستعداد...
أصوات خافتة: حنظلة حَوِّلْ..
- صلاح، فلاح، صباح، محمد، هشام، رباح، سليم، سلام، ختام.. نجاح .. حَوِّلْ
- الطّقس جيّد.. حَوِّلْ.. الطّقس لصالحنا.. حَوِّلْ..
- حضّروا المناشير (جمع منشار، فلا مكان هنا للمنشورات).
- السّياج مرتفع وعدد أعمدته 24 .. حَوِّلْ..
- يلزمنا أذن 24 متطوعاً و 24 منشاراً حديديّاً.. حَوِّلْ..
- سمير، سميرة، جمال، جميل، نضال.. ناصر، عبد، كميل، جلال، كمال.. حَوِّلْ..
- ابرهيم، صابرين، علقمة، صرنا 24 .. حَوِّلْ.. "الوحدة 24 حَوِّلْ" هنا "علقمة" أخو حنظلة، المخيّم ينتقل الى غزّة، المخيّم ينتقل الى الضّفة الغربيّة.. حَوِّلْ..المخيّم يخترق أسوار القدس..حَوِّل..
كان سياج المخيم عالياً جِدّاً، فكلما ارتفع السّياج صار سلاح الحجارة أقلّ فعاليّة، وهذه هي أحدث الوسائل للقضاء على التّخريب والعنف الحجري.. إنّه عصر القضاء على عصر الحجارة.. العصر الحجري..
24 شيطانا يتحرّكون و 24 منشارا تتحرّك.. المناشير تنزل على أعناق الأعمدة الــ 24 وتجتثّها من أساسها.. كل طفل من "الوحدات الــ 24 .. حَوِّلْ" يجتثّ عاموداً.. أسرع طريق لتنفيذ العمَليَّة..
"الوحدة 24.. حَوِّلْ" تعمل يداً بيد مقابل يد بأذن بانسجام مطلق، والمناشير تقصّ الأعمدة العملاقة بصوت سيمفوني رائع، أُطلق عليها فيما بعد، أي بعد أن عاد النّاس الى صحوتهم في اليوم الثّاني وشاهدوا السّياج العالي العملاق وأعمدته الحديديّة المضرّجة الممرّغة بالوحل والأوساخ، اسم "سيمفونيّة المناشير الشّيطانيّة". وهكذا أصبح اسم هؤلاء الشّياطين " الوحدة 24.. حَوِّلْ".
كبر السّياج، وأصبح يطاول السّماء، ولكن الشّياطين والهمس والحصى الـمُتدحرجة على سطوح المخيّم تضاعفت وتزايدت.. ازدادت الأعمدة وأحاط السّياج عنق المخيّم من كلّ الجهات، وها هي الوحدة "ميّة ومِيّة.. حَوِّلْ" عفواً، كبر السّياج وازدادت الأعمدة وها هي "الوحدة الألف.. حَوِّلْ" تجهّز المناشير جمع منشار مرّة أخرى لتُجهز عليه من جديد.
وكلّما كبر السّياج تكاثرت وكبرت الشّياطين معه بالرّغم من كل محاولات الإجهاض التي يسبّبها الغاز الـمُسيل للدموع، الـمُضْحِك الـمُبْكِي والـمُجهِض..
ملاحظة: لقد توقّفت لعبتي المسرحيّة لأنّ لعبة الوحدات الـمَذكُورة أعلاه كانت أشدّ زخماً من الألعاب المسرحيّة، فَحَدَثُ لعبةِ "الوحدة 24.. حَوِّلْ" و "مِيّة ومِيّة " و"الألف.. حَوِّلْ" جعل الألعاب الأخرى تبدو قزماً أمامها..إذن، عليك أن تُـــ:"حَوِّلْ.."
تُرى، كيف أستطيع أنْ أُخطط للعبتي المسرحيّة القادمة في نفس الوقت الذي يخطّط فيه هؤلاء الصّغار من "الوحدة 24.. حَوِّلْ" لعبتهم؟ أظنّ أنّ لعبتهم أصبحت جدّيّة، بل أصبحت وجه القضيّة، وأَزْخَم بكثير من لعبتي المسرحيّة التي اقتَصرَتْ على التّمثيل واللعب والتّهريج..
****
هاجس مسرحيّ: راضي شحادة
هاجس كاريكاتيريّ: خليل أبو عرفة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]