سأتحدث في هذه المداخلة عن كتاب المحتفى به الشاعر والأديب والباحث صالح أحمد المعنون ب ("العمق الفكري والفلسفي في ديوان "العشق والإدراك") للمرحوم الشاعر معين حاطوم. وفي مستهل هذه المداخلة سأتطرق باختصار إلى العلاقات بين الأدباء عامة ثم إلى العلاقة بين المحتفى به أطال الله في عمره وبين الأديب والشاعر المرحوم معين حاطوم.
كثيرا ما يسود التوتر العلاقات بين الأدباء، وأحيانا يتولد الحسد بين الشعراء أنفسهم بفعل عوامل مُتنوعة من أبرزها الرغبة في الاستحواذ على التميز وتحقيق الشهرة والبقاء في دائرة الضوء، ومن أشهر النماذج على هذا الأمر ما حدث بين المتنبي وأبي فراس الحمداني (ت 357ه) قديمًا، فالمتنبي وأبو فراس الحمداني تعايشا في زمن واحد وتنافسا على بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب.
وما جرى بين محمود عباس العقاد (ت 1383ه) والشاعر أحمد شوقي (ت 1351ه) في العصر الحديث، إذ يرى الأستاذ جهاد فاضل أن النقد القاسي الذي وجّهه العقاد لأحمد شوقي لا يعود لمخالفة شعر الأخير للمعايير النقدية التي يستخدمها الأول، وإنما يعود في حقيقته لحسد العقاد الذي "كان يطمع في زعامة الشعر المصري والعربي لعهده".
لقد تنافس الشاعران العراقيان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، وبلغت الحالة التنافسية بينهما أسلوبا مرضيا بالمقاطعة بين كل منهما لأمسيات الشعر أو الصالونات الأدبية التي يحضرها الآخر.
وهذا التنافس له علاقة هامة بالنقد ومرتبط بموضوعية البحث والتحليل، يقول أحد الدارسين: "ثمة عواملَ كثيرةً تؤدي إلى عدم موضوعية الناقد في بحثه وتجعله ينتقد بصورة ينقصها الكثير من الإنصاف، بل إن الإنسان الذي يتعرض لتلك العوامل تجعله لا يرى الحقيقة بل ربما تجعله يراها شيئًا آخر ولذلك تجد هذا الناقد يرى الأبيض أسود، والأسود أبيض، أو تجعله يرى المعوجّ مستقيمًا، والمستقيم معوجًّا".
عوامل كثيرة تؤدي إلى عدم الموضوعية، فالحساد لا يحبون التقدم أو الشهرة لأي أديب غيرهم فهم لا ينصفون في النقد بل عندما ينتقدون أحدًا يتحدثون ربما في معظم الأحيان بقصد تشويهه، وأيضا عدم سماع أو تقبل الرأي الآخر يؤدي إلى فقدان الموضوعية، وثمة عامل آخر هو اتباع أيديولوجية ما دون الأخذ بعناصر رئيسة وظروف وحيثيات النص المختلفة. وكذلك الناقد الذي ينصبّ كل تفكيره على مستقبله ومصالحه الشخصية فقط، فهذا سيكون على عينيه غشاوة دائمة تمنع أو تعرقل الموضوعية،
قد يكون الحسد مقبولا عندما يقترن بالإنصاف والإعجاب بإنتاج الآخرين، وعندما يشجع ويدفع الشاعر لمحاولة رفع مستوى قصيدته بتجويدها وتعميق معانيها للوصول لذروة الإبداع، وهذا الشكل من الحسد الإيجابي يطلق عليه (الغبطة) وهو نادر جدًا بين الشعراء مقارنةً بالحسد بمدلوله السلبي.
ومن الحسد ننتقل باختصار إلى الصداقة حيث تطرق أبو حيان التوحيدي لذلك وهذا ما أوضحه في كتابه “الصداقة والصديق”. إذ يقول “وأما الكتّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوْا من التنافس والتحاسد والتمادي والتماحك، فربما صحّت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وهذا القليل من الأصل القليل”.
وهذا ما يميز علاقة الصداقة التي ترعرعت ونمت بين الأديب الشاعر صالح أحمد كناعنة والمرحوم الشاعر معين حاطوم، وهي التي ستكون محور هذه المداخلة من خلال الكتاب المذكور أعلاه، والتي بدأت شرارتها الحميمة عندما تلقى الأديب صالح هدية من صديق له هي رواية المرحوم معين "النبي رائع الفلسرالي" فكتب عنها مقالا بعنوان "الرجل الذي أتعبه عقله"، هذا المقال أعجب معين حاطوم لما فيه من عمق وفهم للنص، فطلب لقاء صالح أحمد وكانت هذه بداية علاقة مميزة ومثمرة جدا بين الأديبين الشاعرين المميزين، حيث أنتجت عدة مشاريع أدبية.
معين كان يرى أن الأديب صالح هو أكثر من غاص في أعماق نصوصه وأكثر من وقف على ثمرات فكره فدرسها وحللها، وتطورت العلاقة بينهما لتصبح علاقة روحية أفضت في نهايتها إلى تآلف روحيّ حقيقيّ بينهما، وتوافق فكري جعلت الكاتب صالح أحمد من خلال قراءته وتحليله يجري عملية خلق النص من جديد ويعطيه أبعاده الحقيقية أو يكتشفها ويشير إليها بذكاء وعمق وبراعة، فكأن النصين أصبحا يكملان أحدهما الآخر روحا، فكرا وحتى أحلاما.
والنّاظر في دراسة الكاتب صالح أحمد لكتاب "العشق والإدراك" يعلم حقيقة هذا التوافق الخالص، الذي يتجاوز حد النقد والتحليل إلى التماهي أو التجلي والانصهار لخلق حالة جديدة من الفهم الإبداعي الذي يدرك ويستفيد من العلاقة بين المفاهيم اللغوية، الزّمنكانية والحِسّية، ليكوِّنا علاقة قويّة تعمق فهم النص وتنير زواياه المعتمة أو المظلمة بالنسبة لبعض القراء.
"العشق والإدراك" عنوان الديوان الذي تناوله الأديب صالح، فما العلاقة بين العشق والإدراك، يقول الكاتب صالح أحمد وأنا أقتبس: "العشق عند معين يعني وهج القلب النابض، متوحدا ومتناغما مع انسياب الروح الخفية.. وصولا إلى أقاصي العقل المختمر في عوالم السجية المغموسة في رحيق الروح، وصولا إلى سجية الإدراك في قلب الحقيقة"، انتهى الاقتباس.
نلاحظ عمق هذا التعبير الذي يصادف مثله القارئ كثيرا.
يشرح لنا الكاتب في تحليله الذكي لأفكار معين عدد من المصطلحات أو الرموز أو الايحاءات التي يوظفها معين في متن النص وهي كثيرة ومتنوعة ومتشعبة لا مجال لحصرها في مداخلة قصيرة، إنما أورد بعضا منها كنماذج عينية لنأخذ فكرة عنها.
الشمس، يقول صالح أحمد: الشمس عند معين تعني الحقيقة البكر، تلك التي تشكل جوهر البديهة، فلذلك نجد أن الليل يتحول إلى مثير للسجية، وفي غياب الشمس تغيب الحقيقة. ويرى صالح أحمد أن معين يؤكد هذه الدلالات مرات ومرات.
اللهفة، معين يصور اللهفة طاقة جسدية وروحانية ويجسدها حورية ساحرة الحضور تهمس: "أنا الشمس" وتعني أنا الحقيقة البكر. الكاتب يرى أن الإنسان في رأي معين يكون في قمة الصدق مع نفسه أولا؛ حين يطلق العنان لسجيته لتتبع لهفته ورغبته المنطلقة ويكون في أصفى حالات الوجد حين يطلق العنان لسجيته لتبتعد به عن حالات الانطواء والانكفاء على الذات والاستغراق في الحزن. أما الأنثى عند معين كما يحللها الكاتب صالح أحمد فهي اللذة، أو روح المتعة والرغبة المنطلقة بلا قيود، هي رمز الخصوبة والخير وحضن التكاثر، ولا تكتمل الحقيقة والسجية بمطلقها إلا بانطلاق اللذة والرغبة ليكتمل الوجود بها.
وتجب الإشارة إلى أنّ العديد من الفقرات في الكتاب بحاجة لقراءة متأنية وربما لعدة قراءات كي نفهمها أو نقف على أبعادها فهي في تركيبتها رموز فلسفية تبحث في جوهر الوجود، المتأرجح بين الأفكار والمشاعر والعلاقات بينها. فهو يتطرق لبيان العقل والحقيقة، وللود والرحمة، ولحقيقة الانفعال، ويتطرق إلى فلسفة الكمال والخلود، وهي قضايا ومسائل فكرية تحتاج إلى شرح مسهب لا مجال له في هذه العجالة، ومما يؤكد قيمة وعمق كتاب صالح أحمد أنه يحلل أفكار معين ويقارنها بأفكار فلاسفة آخرين، فحول الكمال يلفت الكاتب إلى ان معينا يلتقي بفلسفته مع فلسفة ابن سينا الذي قال بأن الجسد يسكن ويكون بالروح.. وليس العكس، فالروح أسمى وأعظم من أن تسكن الجسد. (ص 48).
معين كتب: "في البدء / وأتوقف هنا قليل لأنه طبعا يتبادر إلى ذهننا مباشرة ما جاء في «إنجيل يوحنا عدد: 1» «فِى الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ» ــ أو ما جاء في سفر التكوين: "في البدء خلق الله السموات و الأرض" وهو نفسه في التوراة بالعبرية: ( בְּרֵאשִׁית, בָּרָא אֱלֹהִים, אֵת הַשָּׁמַיִם, וְאֵת הָאָרֶץ. ב וְהָאָרֶץ, הָיְתָה תֹהוּ וָבֹהוּ, וְחֹשֶׁךְ, עַל-פְּנֵי תְהוֹם; ) ونعود إلى ما قاله معين وكيف فسره صالح، يقول معين: "في البدء/ لم تكن الشمس / لم يكن القمر / لم تكن النجوم /// كان الكمال / الكمال الغارق في لا شكله". إلى هنا كلام معين، كلام عميق ربما مبهم بعض الشيء يحتاج إلى تفسير لم يتوان أديبنا صالح في شرحه قائلا: قد بينا أن الكمال في فلسفة معين حاطوم جوهر روحاني بالمطلق، غير مادي وغير حيّزي (أي لا يحده حيز مكاني أو زماني) ولكنه يحمل سر طاقة الجوهر المنتقلة إليه وهي الروح، وفيها سرُّ تكونه وتشكله، ومن هذه الطاقة هذا السر، تتكون الأشياء وتتشكل وتتطور.. بهذا السر الروحاني تكونت الأجرام والأشياء، والكتل والكائنات.. وكلها أجسام متشيئة اتخذت لها شكلا محددا، والشكل مادي تولد من اللاشكل وهو الجوهر الكلي الكمالي – المبدع الأول الذي أبدعه الأول سبحانه وتعالى وهو الجوهر الروحي بالمطلق.
كما تلاحظون من الصعب الحديث عن كتاب يحلل كل جملة من كتاب عميق بهذه الدرجة، فهو مليء بهذه الأفكار مفعم بالنظريات والمصطلحات التي تحتاج إلى دراسات شاملة. لذلك سأكتفي بنموذج واحد آخر وهو عن قضية تقلق مجتمعنا العربي، وهي قضية العنف المستشري والذي يستنزف دماء شبابنا وجهود وطاقات كثيرة تضيع هباء.
يكتب معين: "تضحك لنا الطفولة / تضحك لنا / ونحن في قمة ضياعنا الرجولي/ نلهث وراء سراب النزوة.../ نعتمر الشهوة والقسوة .../ لنطوع أثداء النساء.../ لنغذي رغبة السيطرة.../ ندوس القلوب ونعتصر من الروح الألم / لنحظى بأطماعنا المرجوة!" ص262.
هذه الأفكار يَبْسطها ويُبسّطها لنا الناقد صالح أحمد فيقول: "هنا يقر معين عدة أمور يعتبرها حقائق ومسلمات:
1- الطفولة وهي رمز البراءة لا تموت في الإنسان مهما كبر، ولا تختفي آثارها من ملامح شخصيته ومكوناتها... ويظل يحن إليها دائما، وقد يعود إليها أحيانا بحثا عن براءة نفسه.
2- معظم الناس - وخاصة الرجال - يرون رجولتهم في فحولتهم، ويتخذون من الفحولة مقياسا للرجولة، ما يجعلهم يلهثون وراء نزواتهم ممتهنين للشهوة، متخذين من ممارستها أداة ووسيلة للسيطرة والهيمنة. يعتبر معين أن حالات العنف، وأخلاق العنف، وثقافة العنف.. غالبا ما يكون مصدرها وباعثها غريزة الشهوة واللذة، وغريزة حب السيطرة... وتحول الشهوة إلى نزعة مسيطرة في الإنسان.. ما يجعله يستلذ بالألم ويزيده الألم والإيلام طمعا بتحقيق المزيد من اللذة والمتعة الشخصية المتولدة عن النجاح في إشباع غريزة الشهوة، وغريزة حب السيطرة، والتملك، لدرجة أنه يعتبر ذلك من ضمن أمجاده وبطولاته...
إذن يرتبط إبداع معين بعمق فهمك له، مستعينا بسمات عديدة كالخيال الواسع، والتّفكير العميق، والثقافة الواسعة، وهذا ما وجدناه في كتاب المربي الأديب صالح أحمد الذي أبدع في الدراسة، البحث والتحليل ليتحفنا بدراسة شائقة سلسة، نحن بحاجة إلى مثيلاتها في مشهدنا الأدبي الذي يزخر بمثل هذه الكنوز المغمورة التي لم تأخذ حقها من النقد والتحليل ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي بذلت فيه جهود جبارة مباركة يستحق عليها كاتبنا كل الاحترام والتقدير، وهي عينة من كتب أخرى للكاتب لا تقل جودة وأهمية منها الدراسات المختلفة، ومنها الإنتاج الذاتي من شعر مسرحية وخواطر.
أخيرا نتمنى لكاتبني وأديبنا الموقر دوام الصحة والعمر المديد لتتحفنا بالمزيد المزيد.
(ألقيت المداخلة في أمسية التكريم في نادي حيفا الثقافي يوم 02.09.2021)
[email protected]
أضف تعليق