صَحْوةُ الفَلافِليِّ الدَّرويش
بقلم: راضي شحادة

يوم نحس يوم منحوس..يلعن أبو الاحتلال:
هؤلاء الشّياطين الصّغار لا يُهَدِّؤون له بَالاً لكي يبيع فلافله. جَرَّ بسطتَه وأوقفها على الرّصيف، وأوقد ناره وغلى زيته، وأسقط فيه بعض حبّات فلافل الاستفتاح، وراح يتمتم مع إيقاع حركات وضْع الحبّات في الـمَقْلَى لحناً درويشيّاً:
يا فَتّاح يا عَليمْ
يا رَزّاق يا كَريمْ
فلافل.. فلافلْ
إلَكْ ألله يا غافِلْ
ولم تكد حبّات الفلافل تأخذ شكلها الصّحيح في الـمَقْلَى حتى خرج هؤلاء العفاريت الصّغار من جحورهم بسرعة ظهور الفطر بعد البرق والرّعد. كيف تجمّعوا بهذه السُّرعة ومن أي جحر خرجوا؟ هذا ما لم يستطع الفلالفي البسيط استيعابه، فانشغاله ببسطته وحبّات فلافله الـمُتراقصة في الـمَقْلَى عَمَى قلبَه عنهم.
كان أحدهم يرفع علم فلسطين بيَدِه وهو يقفز وسط زملائه كالفرْخ الذي يتأهَّب للطّيران، وهذه المرَّة يطير بدون أجنحة، بل بِعَلَمٍ لا بدّ أنّه من صُنعه الخاص، ولولا ذلك لما كان يتعلّق به بهذا الشّكل وبهذا الحبّ، كتعلّق المظلّي بمظلّته التي تظلّ حياته بدونها على كفّ عفريت.
ضاعت بسطته وسط زحام الفراخ الـمُتراقصة حوله والتي لوّحت بحجارتها مستعدَّة لتأدية طقسٍ يوميّ آخر من طقوس الرّقص بحجر أمام بُندقيّة. وتناثر آخرون كالنّمل حول البسطة يجهّزون الحواجز ويحضّرون عدّة الطّقس الـمُقبِل. صرخ حارسهم، فَكَما يبدو أنّ مهامّ اللعبة مقسَّمَة بينهم على أحسن وجه:
- أجى الجيش.. ديروا بالكو .. أجى الجيش.
تقدّم الجيب العسكري الذي كانت البنادق تطلّ من شرفته استعداداً للقنص واقترب من الحاجز، فتفرّغت فوقه ذخيرة الحجارة كزخّ المطر، ومع طيرانها بدون أجنحة من القبضات الصّغيرة انطلقت رصاصة، فاختفت العفاريت في جحورها بسرعة سبقت وصول الرّصاصة إليها، وما بين غمضة عين وانطلاقة رصاصة أصبح الشّارع فارغاً إلّا من بسطة الفلافل وصاحبها المشؤوم الذي وقف مذعوراً مبهوراً مخدّراً مجمّداً لا يعرف الى أين يذهب وكيف يتصرّف. بدا وهو يقف متسمّراً كتمثال لشخصيّة تاريخيّة مهمّة نُصِبَت هذه المرّة على بسطة فلافل وليس على عامود من رخام.
نزل الجنود بسرعة رصاصاتهم وأحاطوا به فازداد تجمّداً ورعباً. وكلّمه أحدهم وهو يدفشه بمقدمة بندقيّته بوحشيّة:
- ليش تخلّي الاولاد يضربو حجارة؟
- أنا بعرفش. أنا بيّاع فلافل وبَسّ..
- إذا بيرجعو كمان مرّة لازم تمنعهم يضربو حجارة.
- أنا ما بشتغل جندي عندكو.
- وكمان بتجاوب يا كلب؟
ونغزه نغزة قويّة بمقدّمة بندقيّتة، وصوّب اليه ضربة أخرى بعقبها، ثم اقترب من بَسْطَة الفلافل ودفعها دفعة قويّة مع كلّ ما عليها، وراحت حبّات الفلافل تتدحرج على الشّارع كحبّات الرّصاص المطّاطي. لم يعِ الفَلافليّ لـِمَا كان يجري من حوله لأنّ الأحداث كانت تتعاقب بسرعة، ولم يكن الوقت كافياً ليفهم أبعادَها. وقف متسمّراً حائراً مصدوماً، بينما صعد الجنود الى جيبهم العسكري وانصرفوا.
صحا لنفسه وراح يَخْبط على رأسه لكي يشفي غليله ويلعن حظّه التّعيس وهو يصرخ:
يوم نحس.. يوم منحوسْ
إلك ألله يا غافلْ
يلعن أبو الفلافلْ
يوم نحس يوم منحوسْ
يلعن أبو الاحتلالْ
ألله يلعن القِلِّةْ
لعنة الله على الفلوسْ
يوم نحس يوم منحوسْ
استمرّ الفلافلي الدّرويش بحركات متتالية يضرب نفسه على رأسه، وانتقل الى ضرب وجنتيه، وراح يتنقل بالضّرب بين رأسه ووجنتيه بالتّوالي وهو يردّد قصيدته الدّرويشيّة الارتجاليّة، الى أنْ دخل عالم الغيب بعيداً عن عالم الواقع.
التقط أنفاسه قليلاً وصحا من دَرْوَشَتِه للحظات، اصطدم نظرُه خلالها من جديد بالعفاريت الصِّغار رماةُ الحجارة وهم يحلّقون حوله، يتوسطهم ملاك صغير راح يرفرف من جديد بجناحه العَلَم وراح يرقص رقصة لا بدّ أنّه ورثها عن أجداده الذين كانوا يرقصون رقصة النّصر عند عودتهم سالمين بعد كل معركة.
كيف اختفوا وكيف ظهروا وكيف راحوا وكيف غدوا؟ هل تحوّلت أُمُّهم الأرض الى رحم ضخم يبتلعهم بداخله لحمايتهم من الأذى، ويقذفهم الى الخارج ساعة الانطلاق نحو الحُرِّيَّة؟ لم يستطع فلافِلِيّنا البسيط أنْ يكتشف كلَّ هذه الألغاز، وسرّ اختفاء وظهور الملائكة العفاريت، بل راح من لَخْمَته (ارتباكه) يمدّ يده على أي شيء على الأرض ليلتقطه ويرميه على الأطفال ويشفي غليله من جديد، وينتقم من هؤلاء العفاريت الذين كانوا سبباً في نَحْسِ يومه الـمَنْحوس، وكانت بعض حبّات الفلافل التي تبعثرت على الشّارع قد سُحقت تحت عجلات الجيب العسكري وبساطير الجنود، وكان من حسن حظّ الأطفال أنّه راح يلتقط حبّات الفلافل ويضربهم بها بدلاً من الحجارة.
في هذه المرحلة بدا المشهد كأحد مشاهد المسرحيَّات العبثيّة حيث أصبحت حبّات الفلافل كُرات لمقاليع "فَشّ الغُلّ" في الأطفال، بينما الحجارة تصوّب نحو الاحتلال. وفجأة التقط الفلافلي شيئاً ثقيلاً، فَصَحا من غفوته عندما أيقن أنّه هذه المرة التقط حجراً، ولم يكن الجنود هناك لكي يصوِّبَه باتّجاههم. أغلقت يدُه على الحجر بإحكام وكأنّ الحجر يرفض أنْ ينطلق في الاتّجاه الخطأ. تَجَمّد مكانه قبل أنْ يفلت الحجر من يده باتّجاه الأطفال، وعاد شكلُه مرّة أخرى الى شكل التّمثال الفَلافِليّ. صحا بعدها صحوة عنيفة هزّت كيانه وراح هاجسٌ عميق ينبعث من داخله قائلاً له:
- لا تأخذ دور الجندي، ودعهم يمثّلون أدوارهم. إنّهم يتقنونها. لا تضرب حجرك باتّجاه الأطفال، بل دعه يطير مع حجارتهم الى الاتّجاه الصّحيح.
راح الفلافلي الطّيّب يلملم أغراضه الـمُتناثرة، وراح الملائكة العفاريت الصّغار يساعدونه على تجميعها ونقلها الى بيته، فشعر وقد تحلّقوا من حوله فرحين، بسعادة غريبة تَسْري في عروقه، وهي أوّل مرّة يحسّ فيها أنّ هؤلاء الملائكة هم جزء من كيانه.
(كان هذا مشهدا من روايتي:"الجراد يحبّ البطّيخ")
****
هاجسٌ مسرحيّ: راضي شحادةصَحْوةُ الفَلافِليِّ الدَّرويش
بقلم: راضي شحادة

يوم نحس يوم منحوس..يلعن أبو الاحتلال:
هؤلاء الشّياطين الصّغار لا يُهَدِّؤون له بَالاً لكي يبيع فلافله. جَرَّ بسطتَه وأوقفها على الرّصيف، وأوقد ناره وغلى زيته، وأسقط فيه بعض حبّات فلافل الاستفتاح، وراح يتمتم مع إيقاع حركات وضْع الحبّات في الـمَقْلَى لحناً درويشيّاً:
يا فَتّاح يا عَليمْ
يا رَزّاق يا كَريمْ
فلافل.. فلافلْ
إلَكْ ألله يا غافِلْ
ولم تكد حبّات الفلافل تأخذ شكلها الصّحيح في الـمَقْلَى حتى خرج هؤلاء العفاريت الصّغار من جحورهم بسرعة ظهور الفطر بعد البرق والرّعد. كيف تجمّعوا بهذه السُّرعة ومن أي جحر خرجوا؟ هذا ما لم يستطع الفلالفي البسيط استيعابه، فانشغاله ببسطته وحبّات فلافله الـمُتراقصة في الـمَقْلَى عَمَى قلبَه عنهم.
كان أحدهم يرفع علم فلسطين بيَدِه وهو يقفز وسط زملائه كالفرْخ الذي يتأهَّب للطّيران، وهذه المرَّة يطير بدون أجنحة، بل بِعَلَمٍ لا بدّ أنّه من صُنعه الخاص، ولولا ذلك لما كان يتعلّق به بهذا الشّكل وبهذا الحبّ، كتعلّق المظلّي بمظلّته التي تظلّ حياته بدونها على كفّ عفريت.
ضاعت بسطته وسط زحام الفراخ الـمُتراقصة حوله والتي لوّحت بحجارتها مستعدَّة لتأدية طقسٍ يوميّ آخر من طقوس الرّقص بحجر أمام بُندقيّة. وتناثر آخرون كالنّمل حول البسطة يجهّزون الحواجز ويحضّرون عدّة الطّقس الـمُقبِل. صرخ حارسهم، فَكَما يبدو أنّ مهامّ اللعبة مقسَّمَة بينهم على أحسن وجه:
- أجى الجيش.. ديروا بالكو .. أجى الجيش.
تقدّم الجيب العسكري الذي كانت البنادق تطلّ من شرفته استعداداً للقنص واقترب من الحاجز، فتفرّغت فوقه ذخيرة الحجارة كزخّ المطر، ومع طيرانها بدون أجنحة من القبضات الصّغيرة انطلقت رصاصة، فاختفت العفاريت في جحورها بسرعة سبقت وصول الرّصاصة إليها، وما بين غمضة عين وانطلاقة رصاصة أصبح الشّارع فارغاً إلّا من بسطة الفلافل وصاحبها المشؤوم الذي وقف مذعوراً مبهوراً مخدّراً مجمّداً لا يعرف الى أين يذهب وكيف يتصرّف. بدا وهو يقف متسمّراً كتمثال لشخصيّة تاريخيّة مهمّة نُصِبَت هذه المرّة على بسطة فلافل وليس على عامود من رخام.
نزل الجنود بسرعة رصاصاتهم وأحاطوا به فازداد تجمّداً ورعباً. وكلّمه أحدهم وهو يدفشه بمقدمة بندقيّته بوحشيّة:
- ليش تخلّي الاولاد يضربو حجارة؟
- أنا بعرفش. أنا بيّاع فلافل وبَسّ..
- إذا بيرجعو كمان مرّة لازم تمنعهم يضربو حجارة.
- أنا ما بشتغل جندي عندكو.
- وكمان بتجاوب يا كلب؟
ونغزه نغزة قويّة بمقدّمة بندقيّتة، وصوّب اليه ضربة أخرى بعقبها، ثم اقترب من بَسْطَة الفلافل ودفعها دفعة قويّة مع كلّ ما عليها، وراحت حبّات الفلافل تتدحرج على الشّارع كحبّات الرّصاص المطّاطي. لم يعِ الفَلافليّ لـِمَا كان يجري من حوله لأنّ الأحداث كانت تتعاقب بسرعة، ولم يكن الوقت كافياً ليفهم أبعادَها. وقف متسمّراً حائراً مصدوماً، بينما صعد الجنود الى جيبهم العسكري وانصرفوا.
صحا لنفسه وراح يَخْبط على رأسه لكي يشفي غليله ويلعن حظّه التّعيس وهو يصرخ:
يوم نحس.. يوم منحوسْ
إلك ألله يا غافلْ
يلعن أبو الفلافلْ
يوم نحس يوم منحوسْ
يلعن أبو الاحتلالْ
ألله يلعن القِلِّةْ
لعنة الله على الفلوسْ
يوم نحس يوم منحوسْ
استمرّ الفلافلي الدّرويش بحركات متتالية يضرب نفسه على رأسه، وانتقل الى ضرب وجنتيه، وراح يتنقل بالضّرب بين رأسه ووجنتيه بالتّوالي وهو يردّد قصيدته الدّرويشيّة الارتجاليّة، الى أنْ دخل عالم الغيب بعيداً عن عالم الواقع.
التقط أنفاسه قليلاً وصحا من دَرْوَشَتِه للحظات، اصطدم نظرُه خلالها من جديد بالعفاريت الصِّغار رماةُ الحجارة وهم يحلّقون حوله، يتوسطهم ملاك صغير راح يرفرف من جديد بجناحه العَلَم وراح يرقص رقصة لا بدّ أنّه ورثها عن أجداده الذين كانوا يرقصون رقصة النّصر عند عودتهم سالمين بعد كل معركة.
كيف اختفوا وكيف ظهروا وكيف راحوا وكيف غدوا؟ هل تحوّلت أُمُّهم الأرض الى رحم ضخم يبتلعهم بداخله لحمايتهم من الأذى، ويقذفهم الى الخارج ساعة الانطلاق نحو الحُرِّيَّة؟ لم يستطع فلافِلِيّنا البسيط أنْ يكتشف كلَّ هذه الألغاز، وسرّ اختفاء وظهور الملائكة العفاريت، بل راح من لَخْمَته (ارتباكه) يمدّ يده على أي شيء على الأرض ليلتقطه ويرميه على الأطفال ويشفي غليله من جديد، وينتقم من هؤلاء العفاريت الذين كانوا سبباً في نَحْسِ يومه الـمَنْحوس، وكانت بعض حبّات الفلافل التي تبعثرت على الشّارع قد سُحقت تحت عجلات الجيب العسكري وبساطير الجنود، وكان من حسن حظّ الأطفال أنّه راح يلتقط حبّات الفلافل ويضربهم بها بدلاً من الحجارة.
في هذه المرحلة بدا المشهد كأحد مشاهد المسرحيَّات العبثيّة حيث أصبحت حبّات الفلافل كُرات لمقاليع "فَشّ الغُلّ" في الأطفال، بينما الحجارة تصوّب نحو الاحتلال. وفجأة التقط الفلافلي شيئاً ثقيلاً، فَصَحا من غفوته عندما أيقن أنّه هذه المرة التقط حجراً، ولم يكن الجنود هناك لكي يصوِّبَه باتّجاههم. أغلقت يدُه على الحجر بإحكام وكأنّ الحجر يرفض أنْ ينطلق في الاتّجاه الخطأ. تَجَمّد مكانه قبل أنْ يفلت الحجر من يده باتّجاه الأطفال، وعاد شكلُه مرّة أخرى الى شكل التّمثال الفَلافِليّ. صحا بعدها صحوة عنيفة هزّت كيانه وراح هاجسٌ عميق ينبعث من داخله قائلاً له:
- لا تأخذ دور الجندي، ودعهم يمثّلون أدوارهم. إنّهم يتقنونها. لا تضرب حجرك باتّجاه الأطفال، بل دعه يطير مع حجارتهم الى الاتّجاه الصّحيح.
راح الفلافلي الطّيّب يلملم أغراضه الـمُتناثرة، وراح الملائكة العفاريت الصّغار يساعدونه على تجميعها ونقلها الى بيته، فشعر وقد تحلّقوا من حوله فرحين، بسعادة غريبة تَسْري في عروقه، وهي أوّل مرّة يحسّ فيها أنّ هؤلاء الملائكة هم جزء من كيانه.
(كان هذا مشهدا من روايتي:"الجراد يحبّ البطّيخ")
****
هاجسٌ مسرحيّ: راضي شحادة
هاجس كاريكاتيريّ: خليل ابو عرفة

هاجس كاريكاتيريّ: خليل ابو عرفة

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]