الفساد في لبنان، هو «أولاً وآخراً.. وبين بين»، ولا مفرّ منه. هو ليس فضيحة أبداً، مهما تطاول عليه «رعاع» الأخلاق والقيم. إنه أسلوب حياة وقاعدة حكم وركيزة سلطة وعقيدة نظام وطوائف وأحزاب ضاربة في تربة لبنان، منذ التأسيس.
الفساد في لبنان، «قيمة» ذات ركائز متينة، «فضيلة» بثياب عفاف شفاف. الطريق إلى السلطة تمر حتماً بالفساد. الاستمرار في السلطة رهن باحترام قواعد الفساد والإفساد. الطارئون من «أنقياء القلوب» وأصحاب الكف النظيف، عابرون فقط. يُزاحون بقرار. يُقالون بتوقيع. يُعاقبون بالنسيان. يصّرون بأنهم «صالحون» وأرجلهم ليست على الأرض.
ينشغل اللبنانيون دائماً، بهجاء الفساد. عادة سقيمة وترداد معيب ودلالة على فقر في المخيلة وعجز في الفعل. حتى الذين يعتاشون، مالياً واجتماعياً وسياسياً من نظام الفساد والإفساد، يشتركون في جوقة الهجاء. شيء من طواحين الهواء. وأفدح ما يصاب به اللبنانيون، انخراطهم الحماسي بحروب الفاسدين ضد الفاسدين، ولكن بلا أسماء. مسموح «الاعتداء» فقط على مرتكبي «الفساد الصغير». الفساد الكبير، «فيه الخصام، وهو الخصم والحكَمُ».
شعار محاربة الفساد، فارغ من الأهداف. ضجيج كلام وصراخ في مناخ الفساد الطلق. منظومة حياة اللبنانيين وثيقة بالرحم المنتج للفساد. حبل الصرة لمعيشة اللبنانيين وغذائهم وصحتهم وتربيتهم ومؤسساتهم كافة متصل بنظام لا يخجل من ارتكاباته ولا يعيش إلا في الارتكاب.
لا فائدة من تعداد أمكنة الفساد. يعوم على البلد على 10452 كلم2 من الارتكاب. لا ملجأ يأوي إليه المصابون بوعي الشفافية والمساءلة والمحاسبة… الحاكمون من فوق، بالفساد المعروف، لهم مقلدون في كل مكان. الديموقراطية، زينة رثة لفحشاء النظام. ديموقراطية ممسوكة. متفق على تقييدها بمن حكم ويحكم وسيحكم. الاختلاف على النسب وليس على الاشتراك بحلب البقرة. مؤسسات الرقابة مصادرة وتابعة.
القضاء يتمسكن ولا يتمكَّن. يعرف النصوص جيداً ويعرف كيف يقرأها ليطوِّعها، لا ليطيعها. المؤسسات مملوكة من أصحابها الشرعيين المعينين بالانتخاب الشعبي المبرم، بطواعية الولاء الممذهب والمذهَّب. مؤسسات بإدارات تابعة. الإدارات حزب طبقة الإفساد. الخلاف على المراكز فيها، هو لحماية «طريق المال» إلى بيوت أهل النفوذ.
الفساد، نظام لبنان الرسمي. ممسك بالمفاصل التي تدر أموالاً، ومدرك التفاصيل. الهدر كذبة. كأنه فعل غير مقصود. السرقة، هي الفعل، وهي الجائزة التي يستحقها بجدارة التمثيل، أهل الحكم ومن معهم من الحاشية، ومن يثبِّت أقدامهم من هيئات مالية وشركات تجارية ومؤسسات عقارية، واستباحات بمشاعات بحرية ونهرية وبرية، وأخيراً فضائية، عبر سرقة الإنترنت.
كل هذا ليس جديداً. استقالة اللبنانيين من سياسات التغيير مزمنة… الجديد المطلوب، هو في أن يكفّ اللبنانيون عن الشكوى. فلا يصيبهم إلا ما قالته كلماتهم وأفعالهم. هم قبلوا، بملء إرادتهم، أن يكونوا جزءاً من منظومة الفساد، عن طريق الولاءات الطائفية والمذهبية. الانتهازية حرفة الطائفيين. لا ينجو منها طائفي، طالما هو لا يميز على أساس الكفاءة والجدارة والأخلاق، بل يقيم ميزانه على قاعدة ان كان منا (طائفياً) أو كان من غيرنا و.. «الجاهل منا أفضل من العالم عندهم». ميزان لا يختل إلا نادراً وعن غفلة من ضعيف أو مستضعَف طائفياً.
الفساد ليس لعنة وليس قدراً. هو صناعة بأيدٍ لبنانية طويلة. هو ليس وافداً من خارج. برغم ذلك، لا أحد يتجرأ على تسمية فاسد واحد من بين العصابة المتحكّمة والمستحكمة. القضاء جاهز رافعاً مادة التشهير. الأتباع بالمرصاد. التهديد يصل إلى الأذى الجسدي أو إلى لقمة العيش. ثم، إن من يدافع عن الفساد، جبهة «شعبوية» عريضة نافذة ومؤثرة، مؤيدة من المرجعيات الدينية والمراجع الإقليمية ومدعومة بجيشان الحساسيات المذهبية.
هل من وسيلة لمواجهة الفساد؟
لم يجترح اللبنانيون بعد وسيلة للجم الفساد والحدّ منه واعتباره جريمة تستوجب العقاب. أهل السياسة مقيمون في قلعة حصينة. خلافاتهم ليست على الفساد، بل على الحصة فيه… المجتمع المدني مفتَّت. ضعفه تكويني، أفعاله انتقائية، ويقاتل بالدبوس. لا بيئة ثقافية وسياسية حاضنة. يغرد خارج السرب… النقابات في ذمة النسيان… الأحزاب شريكة في المغانم. الجامعات ميادين تتبارى فيها الطوائفيات على المراكز والإدارات والعمادات. كلياتها خنادق مشتبكة… القضاء قضى على نفسه ونأى بنفسه. لا نجرؤ على أكثر من ذلك. فللقضاء أنياب أشدّ فتكاً من الديكتاتورية.
أليس لهذا الفساد من نهاية؟
التعويل في التغيير، يقع على عاتق ما سيحدث في الإقليم، بعد انتهاء الحروب. قد نصبح عراقاً آخر، فساداً ودماءً وقتلاً. قد نبقى على ما نحن عليه وأسوأ. أما إذا اهتدى المشرق إلى الديموقراطية والعدالة والمواطنة والمساءلة، فعندها، ربما، يكون للبنانيين دولة، ترث دويلات أصحاب الفساد. أمن لبنان مضمون راهناً، بالفساد المنظم والمعمَّم.
[email protected]
أضف تعليق