كتب : راضي شحادة
فَخْرُ البضائع العربيّة الوطنيّة:
أهدتني الحجّة "ام غصوب" بعد عودتها من حجّها المبرور وسعيها المشكور الى مكّة المكرّمة، مملكة المغفور له العزيز "فهد بن عبد العزيز"، طيّب الله أنفاسه وخفّف من أوجاع راسه مع المغفور له "صدّام حسين"، أهدتني مسبحة جميلة جِدّاً مصنوعة بدقّة ومصمّمة بشكل ملفت للانتباه، وشكرتها بما فيه الكفاية على هذه "الفَطنة"، وقلت في قرارة نفسي: "لا أظنّ أنّ الصّناعة العربيّة دقيقة بهذا الشّكل ومصمَّمة بهذا الجمال، فنحن لسنا يابانيّين لا سمح الله".
ولم يكن ظنّي هذا بسبب خيبة أملي من الحكّام العرب وصناعاتهم وصنيعهم لا سمح الله، بل لأنّ مملكة العاهل السّعودي ليست بحاجة للصّناعة المحليّة ما دامت تستطيع بأموالها شراء أيّة صناعة من أيّة دولة.
ومن المسبحة الجميلة تدلّت ورقة صغيرة جِدّاً مختومة بتواضع، شكّلت جزءاً من تصميم المسبحة كتب عليها: Made in Japan.
شكرت الحجّة "ام غصوب" على عنائها الذي تكبّدته في شبه الجزيرة العربيّة لجلبها المسبحة عبر صحارى العرب الشّاسعة، وشكرت الملك فهد ومملكته على تكبّدهما عناء إحضار المسبحة من بلاد الشّمس والكومبيوتر ودفْعهما ثمنها بالعملة الأجنبيّة الصّعبة، وكلّ ذلك من أجلي.
بعد عودة الحجّة "ام غصوب" من مشوارها الثّاني الى السّعودية خلال عمرتها المعمورة ومساعيها المشكورة، جلبَتْ لي معها هديّة رائعة أخرى لا تقلّ روعة عن الهديّة السّابقة، ولأنّها تحمل رمزاً عزيزاً على قلبي وعلى روحي الفلسطينيّة، بالإضافة الى أنّني كنت بأمسّ الحاجة إليها حفاظاً على صحّتي من البرد، واتّقاءً لحجارة أهل الانتفاضة عندما كنت أسافر الى بلاد الشّعب المنتفض غرب النّهر وشرق البحر.
كانت الهديّة هذه المرّة "حَطّة"(كوفيّة) وطنيّة جميلة، فاعتدت على لبسها، فتحميني من شرد برد الشّتاء، أو أرفعها كالعلم فوق آنتين سيارتي كي لا يظنّني أهل قطاع غزّة والضّفّة الغربيّة والقدس الشَّريفة مستوطناً أو إسرائيليّاً، وهي بادِرة وطنيّة فرَضَتْها الانتفاضة عليّ، ومن خلالها استرجعت شعوري الضّائع بفلسطينيتي بعد أنْ فرض عليّ عيد استقلال إسرائيل رفع أعلامها في المناسبات المدرسيّة والرّسميّة عندما كنت طفلاً، حيث كان أخوك مرغماً لا بطلاً أو مغسول الدّماغ.
المهم الحطّة الوطنيّة التي أحضرَتْها لي الحجّة من بلاد الحجّ فهد.. أشهد بالله، أنّها كانت جميلة، ولكن لعب الفأر في عبّي وقلت: "لا بدّ أنّ هذه الحطّة قد "مِيدَت" أي made في نفس المكان الذي كانت المسبحة قد "مِيدَتْ" فيه.
ولم يخطيء حدسي هذه المرّة عندما تفحّصت كوفيّتي الوطنيّة من جديد واذا بــ Made in Japan مختومة على زاوية من زواياها وبخطّ صغير متواضع كتواضع اليابانيّين وغير ملفت للانتباه، لكي لا يمس بشرف الكرامة الوطنيّة والعروبة والإسلام والقضيّة الفلسطينيّة.
كانت فرحتي بالمسبحة والحطّة كبيرة، وقلت في قرارة نفسي: "إذا كانت فرحتي بمصنوعات غير العرب كبيرة الى هذا الحدّ، فكم ستكون سعادتي غامرة وأكبر لو أنّها من صنع عربي، وكم هي عظيمة فرحة اليابانيّين باختراعاتهم وصناعاتهم التي يوزّعونها على كلّ العالم؟".
وقبل مشوارَيّ الحجّة "ام غصوب" الى مكّة المكرمة كان الحظّ قد حالفني بزيارة اليابان في جولة عروض مسرحيّة، وليس كمُصدِّر للبضاعة العربيّة الى اليابان، بعد أن تلقّيت دعوة رسميّة من البروفيسور الياباني "يوزو إيتاچَاكي" رئيس قسم دراسات الشّرق الأوسط في جامعة طوكيو، ومن مؤسّسي حركة "قارب السّلام" اليابانيّة. كان ذلك، والحقّ يقال، قبل أنْ أتعرّف على أصل المسبحة والحطّة الوطنيّة، اليابانيّتين طبعاً، اللتين أهدتني ايّاهما الحَجّة، العربيّة طبعاً.
يومها اقترح عليّ أحد المرافقين الفلسطينيّين لي في الجولة أنْ نحمل بعض الهدايا لأصدقائنا اليابانيّين تعبيراً منا عن العرفان بجميلهم لدعوتهم لنا الى بلادهم، فتَحيَّرْنا ماذا يمكن أنْ تكون الهديّة.
رسونا على فكرة أعجبت الجميع، وهي أنّ أفضل هديّة يمكن أن يهديها الفلسطينيّون لليابانيّين هي شيء من القدس الشّريفة، وله علاقة بحياتنا وتراثنا ووطنيّتنا.
وفي جولة سريعة في أسواق القدس العربيّة "الشّريفة" رحنا نتمعّن في أغراض الدّكاكين، وكانت أغراض السوڤِينيرز كثيرة ومزيّنة بأعلام اسرائيل وشمعداناتها ونجمات داووداتها وكلمات مثل:shalom, peace, I love Israel, Israel ولم يكن عَلَم فلسطين أو الكلمة نفسها Palestine مكتوبة على أيّة قطعة سوڤينيرز.
ارتبكنا كثيراً، وأنقذنا أحد زملائنا في جولة القدس "الشّريفة" عندما اقترح أنْ نشتري لأصدقائنا اليابانيّين حطّات وطنيّة، وهذا ما حدث فعلاً.
كانت فرحة أصدقائنا اليابانيّين كبيرة بالهديّة المتواضعة، وشرحنا لهم أنّ لهذه الحطّة عشرات الأشكال التي يمكن استعمالها بها، ومنها شكل ملثّم وشكل فلّاح، وحطّة مع عقال مائل، وشكل لَفْحَة تلفّ العنق، وشكل زنّار لخصر راقصة بَطن شرقيّة، وشكل لخريطة فلسطين(إسرائيل الكبرى حاليّاً) عندما تعلّق كزينة في البيت..الخ.
وبعد العرض الرّائع لأشكال الحطّة أمام أصدقائنا اليابانيّين انتبهت بأنّ أصدقاءنا اليابانيّين كانوا "يسايرونَنا مسايرة"، فقلنا إنّه لا بدّ أنّ في الأمر سرّاً.
وبعد أنْ حَدَثَتْ قصّتي مع الحجّة "ام غصوب"، اكتشفت سرّ نظرات أصدقائنا اليابانيّين خلال عرض أشكال الحَطَّة الفلسطينيّة، فهم لشدّة لُطفهم وحُسن استقبالهم لضيوفهم الفلسطينيّين استصعبوا مواجهتنا بحقيقة أنّ هديّتنا لهم ما هي إلّا أحد اختراعاتهم، ومن المؤكّد أنّهم قالوا في قراراة قراراتهم: "لا بدّ أن تأتي اللحظة التي يفطن العرب الى ضرورة توفير بعض النقود خلال مشترياتهم ويخونون الأمانة ويتوقّفون عن شراء بضائعهم من ياباننا".
وفعلا صدق حدس اليابانيين، فتحوّل ختم بضاعة العرب من "Made in Japan " الى "Made in China".
هاجس مسرحي: راضي شحادة
هاجس كاريكاتيري: خليل أبو عرفة
[email protected]
أضف تعليق