بقلم: سوزان حسن ضاهر- مديرة قسم التخطيط الاستراتيجي في جوينت تيفيت ونائبة المدير العام.
في ظلّ عالمٍ اقتصادّي أضحى يُهمينُ عليه مبدأ التغييرات السريعة وربما الاحداث المتغيرة غير المُتوقعّة اقتصاديا واجتماعيا، أضحت البطالة ونسبُ المشاركة المُنخفضة في سوق العمل احد التحديّات الكُبرى اللتي تواجه المجتمعَ العربي في البلاد مُشكّلةً عقبَة امام تنميته وتطويره اقتصاديا. في ذاتِ الوقت، يأخذُ مِحورُ التشغيلِ منحًى آخرا اذا ما كانَ الهدفُ خلق بيئة اقتصادية ناجعة وثابتة ذات استمراريّة وديمومة. فالى جانب التركيز على أهمية تقليص البطالة ورفع نسب التشغيل، نحتاج سياسات ذات رؤية بعيدةِ الأمدِ تَسعى لبناء قدرات لدى الفرد تساعده على مواجهة التغييرات المختلفة في سوق العمل والبقاء داخل دائرة العمل او العودة اليها سريعًا. سياسات وآليّات تعزّز الحصانة التشغيلية والاقتصادية ولا تدعم الانخراط المؤقت في سوق العمل فحسب.
تَستندُ اي أسس تنمويّة اقتصادية إلى مجموعة أسس وعناصرٍ متعددة الأبعاد، من أهمّها عنصر التشغيلِ بسياساته المختلفة. حيث من الممكن التمييز بين انماطٍ مُختلفة من سياسات التشغيل:
سياسات التشغيل الإستباقية (Proactive); وسياسات التشغيل النشطة (Active).
وفي النمطين المختلفين فإن الأدوات المختلفة تستهدف التأثير في عوامل العَرضْ و/أو عوامل الطلب.
اما تلك التي ترتكز على التأثير في العوامل التي تخص الفرد وجانب العرض فهي في كثير من الاحيان تتمركز حول ملائمته لسوق العمل واحتياجاته الآنيّة وحول كيفية دمجه بشكل اني في الفرص المتواجدة. بينما هنالك حاجة للتركيز على جانب اوسع يتطرق الى مدى "حصانته" التشغيلية والشخصية وقدرته على ملائمة نفسه لاحتياجات سوق العمل المتغير وغير الثابت.
شهد العالم في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة وغير متوقعة كان لها أثرا اقتصاديا كبيرا على سوق العمل بشكل عام، كالأزمة المالية العالمية في عام 2008 وكازمة جائحة الكورونا بأبعادها الاقتصادية التي تضرّر الفرد العامل والباحث عن عمل بسببها كثيرا. في أزمات كتلك، يكون المتضرر في معظم الأحيان ذاك الفرد صاحب المهارات المتواضعة غير الملائمة، وذو عدم القدرات الكافية على التأقلم سريعا والتطوير الذاتي.
فعلى سبيلِ المثال، تُشير المعطيات والبحوثِ الى ان الفئات الاساسية التي انخفضت لديها نسب التشغيل بشكل كبير في البلاد هي فئة الرجال من المجتمع العربي، تحديدا اولئك المنخرطون في العمل في الفروع والمرافق الاقتصادية ذات الانتاجية المنخفضة، ذوي مهارات منخفضة ومؤهلات تعليمية وتأهيلية محدودة نوعا ما. كذلك هو الحال مع فئة معينة من الشبان والشابات صغيري السن، الذين فقدن وظائفهم واماكنهم في سوق العمل في فترة الازمة الاخيرة، وعلّ ما يميز هذه الفئة تحديدا هو نقص المهارات والشهادات الملائمة. فئة اخرى عامة من المجتمع العربي اللتي عانت من ازمة بعد عن سوق العمل في فترة الكورونا هي تلك التي واجهت صعوبة في استخدام اليات العمل عن بعد اما لنقص المهارات واما لكونها منخرطة في وظائف لم تتيح العمل عن بعد.
ملخّص الحديث، ان ذوي المهارات الشخصية والتشغيلية المحدودة والحصانة التشغيلية المنخفضة كانوا اكثر عرضة للمعاناة من اسقاطات الازمة وهم أكثر عرضة للتأثر بالجوانب السلبية للأزمات الاقتصادية حين وقوعها وبالتالي هم الأكثر عرضة للبقاء خارج سوق العمل ودخول دائرة البطالة طويلة الأمد حتى بعد زوال الأزمة.
اما عن الحصانة، فيعود استخدام مصطلح الحصانة الى عوالم الفيزياء والهندسة، حيثُ يصف قدرة المادّة على العودة الى حالتها الأصلية بعدَ إحداث قوة ما عليها، وتدريجيا تم ضم هذا المصطلح وملائمة مضامينه الى العوالم البيئية ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية. فحينما نتحدث عن الحصانة، بالامكان الحديث عن حصانة شخصية نفسية، حصانة مجتمعية، وطنية وغيره.
مصطلح الحصانة (Resilience) في المجال الاجتماعي بشكل عام يعني قُدرة الفرد، الجهاز، المجتمع على "التعافي" بعد حالة او مرحلة صعبَة، احتواء الصعوبة، التأقلم مع التغيير نتيجة تلك الحالة والعودة الى قدرة الأداء كما كان الحال عليه قبل وقوع الحالة او المرحلة الصعبة (مرحلة الطوارىء).
الحصانة في مجال التشغيل قد تصف قدرة الفرد على التعامل مع ازمات سوق العمل وقدرته على العودة بذات الأداء وربما بشكل اقوى وذو تأهيل ومهارات اكثر ملائمة ولياقة. وفقا لتعريف إحدى المنظمات المجتمعية الغعالة في مجال التشغيل، فان الحصانة التشغيلية تشمل مجمل المركبات والمهارات التي يحتاجها الفرد والتي تمكنّه من الاندماج، الاستمرار والتقدّم في سوق العمل المتغيّر وتمكنه من قدرة النهوض والوقوف مجددا بعد الازمات التشغيلية بشكل مستقّل.
ما نحتاجه اليوم هو؛
١. تغيير وتذويت الطرح. من طرح يدعم الدمج في سوق العمل من اجل التعامل مع ابعاد واسقاطات الازمة الى طرح تحسين وتطوير الرأسمال البشري، تقوية المهارات بشكل يزيد من تهيئة الافراد للأزمات المستقبلية ويهيئهم لدخول سوق العمل من اوسع ابوابه والى فروع اقتصادية ذات انتاجية عالية.
٢. بذل الجهود والموارد في بناء ادوات من أجل تعزيز الحصانة التشغيلية الفردية لدى فئات معينة من المجتمع العربي بشكل يساعده على النهوض من ازمة التشغيل الحالية، التعلم من التجربة المثيرة للتحدّي وخلق حصانة و"مناعة" للتعامل مع ازمات مستقبلية شبيهه. كخطوة اولى من الممكن الاعتماد على المشاريع الموجودة ومحاولة ملائمة خطط عملها بشكل تشدد على ادوات لبناء شبكة امان اقتصادية للفرد والعائلة، تربية اقتصادية وادوات لادارة الميزانيات، دمج في مساقات لتأهيل مهني في مجالات مطلوبة، تذويت مهارات عمل لينة ومرنة لدى الفرد، دعم في خلق بيئة تساعد على العمل عن بعد وغيره.
٣. التعمق في الجانب البحثي، لدراسة مضمون الحصانة في المجالات الاقتصادية والتشغيلية، وبناء مقاييس مدروسة للحصانة التشغيلية التي ترتكز على الخبرات والتجارب لدى مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية الناشطة في المجال.
مسؤولية الخروج من ازمة التشغيل الحالية، بناء الحصانة التشغيلية كركن هام في سيرورة التنمية الاقتصادية للمجتمع العربي والاستعداد للازمات الاقتصادية الممكنة القادمة، تقع على الجميع: متخذي القرار في المؤسسات الحكومية، مشغليّن في القطاع الخاص والعام، مؤسسات مجتمع مدني وافراد.
بناء رؤية لتطوير اقتصادي ذوو استمرارية وديمومة للمدى البعيد وخطة لتحقيقها يتطلّب تكاتف، بذل جهود وموارد وتفكير خلاق وحداثي لا يكتفي بسياسات دمج بسوق العمل وتعامل مع المشاكل الآنيّة.
سوزان حسن ضاهر- مديرة قسم التخطيط الاستراتيجي في تيفيت ونائبة المدير العام.
[email protected]
أضف تعليق