تعاني عدد من الدول العربية اليوم من ضعف الاستقرار والأمن في بلادها لأسباب عديدة منها بسبب تدخلات عسكرية خارجية وأخرى بسبب اضطرابات وثورات داخلية وانتفاضات شعبية. لا شكّ أن الاستعمار ما زال يلعب سياسة فرّق تسد في بلادنا العربية بل في جميع بقاع الأرض بما فيها الدول الإفريقية والآسيوية، إلا أن الجهل المتفشي في تلك الدول والتعصب الديني والقومي الأعمى بالإضافة للاستقطاب المجتمعي القبلي، كلّها عوامل تساعد الدول المستعمرة على تحقيق أهدافها بسهولة ويسر. حيث أنه من الصعب على الشعوب الواعية والدول الديمقراطية أن تنجرّ وراء الاقتتال الداخلي أو الاضطرابات لأنها تعرف حق المعرفة أن الحياة بدون الأمن والاستقرار هي جحيم يحرق كل الأخضر واليابس. فالأمن هو الأولوية الأولى للشعوب الواعية. أما الشعوب التي يسودها الجهل فتحرق نفسها بنفسها.
إن حلم السوريون والعراقيون واليمنيون والليبيون والسودانيون اليوم هو الاستقرار والأمن، لأنهم ذاقوا ويلات الحروب والانقسام والاضطرابات والاغتيالات والتهجير، وأرقام القتلى والايتام والأرامل والفقراء بالملايين. فلا تشعر الشعوب بقيمة الاستقرار والأمن إلا عندما تفقدها. وقد قررت الشعوب العربية في مطلع العام 2011 الانقلاب على أنظمة الحكم المستبدة التي تحكمها، بما يسمى الربيع العربي، وبدأت مع تلك التحركات الشعبية الجادة القلاقل والانقسامات المأساوية. وبغض النظر عن طريقة إدارة الشعوب العربية لثوراتها العظيمة ضد الدكتاتوريات العربية وضد الظلم والفساد والفقر والجوع وغياب العدالة الاجتماعية والحريات، إلا أننا عندما ننظر اليوم إلى النتيجة التي وصلت إليها تلك الشعوب نعلم أنّ هذه النتيجة ليست النتيجة المرجوة وأن استكمال الثورات العربية هو أمر حتمي حتى الوصول إلى الاستقرار والامن أولاً ولكن ضمن نظامٍ ديمقراطيٍ تعدديٍ يقوم على المواطنة والحريات.
ويفاضل البعض بين خيار الديمقراطية والتعددية والحريات من جهة، وبين الأمن والاستقرار من جهة أخرى. فقد يخرج علينا أمير من أمراء الخليج ليتشفى ويشمت بمن ثار على الدكتاتوريات ويعايرهم بالنتيجة التي وصلوا إليها حتى الآن. صحيح أنّ دول الخليج دولاً دكتاتورية غير ديمقراطية لكنها تنعم بالأمن والاستقرار والرخاء. وهم فخورون بذلك. فالسعوديون والاماراتيون والبحرينيون والكويتيون والقطريون لا يشعرون أنهم ينقصهم شيء وهم سعيدون بقياداتهم الغير منتخبة بل ويفترضون أنهم حتى لو أتيح لهم انتخاب قيادة جديدة فلن يجدوا قيادة أفضل من قيادتهم الحالية. بل يعتقدون أنّ الديمقراطية ليست شرطاً أو متطلبا أساسياً للاستقرار والأمن والرخاء الاقتصادي، وأن الحريات، بما فيها حرية الرأي والتعبير وحرية التظاهر، تعتبر شيئا ثانويا ليست ذات قيمة أو ضرورة قصوى بالنسبة لهم.
إن الحياة بلا أمن واستقرار ليست حياة، سواء بالنسبة للبشر أو حتى لجميع الكائنات الحية. ويمكننا النظر إلى الفرق بين الدول التي تنعم بالأمن والاستقرار والدول الغير مستقرة أمنيا. فالشعب الفنلندي على سبيل المثال، يُبدع ويتقدم على باقي الشعوب في العديد من المجالات المتميزة، ولديه أفضل نظام تعليمي في العالم وهو الأكثر سعادة بين كل شعوب الأرض. بينما إذا نظرنا إلى الشعب العراقي الجريح فهو يمرّ بزمن عصيب بسبب الحروب التي مزّقت مجتمعه ودمّرت بنيته الاقتصادية، وما زال يعاني الويلات بسبب التفجيرات التي لا تتوقف وتضرب أمنه واستقراره. كيف نتوقّع أن يتقدّم الشعب العراقي في المجال العلمي والتكنولوجي كباقي الأمم في حين أنّ المواطن العراقي ما زال يخاف على حياته وحياة أبنائه عند الذهاب إلى العمل أو إلى الصلاة في المسجد أو حتى مجرّد الخروج إلى الشارع. لقد تمّ قتل ملايين العرب في العقود الأخيرة لأسباب تافهة، ونحن اليوم لا نريد لأي عائلة أن تفقد أيّ من أفرادها بسبب فشل السياسيين بتحقيق الأمن والاستقرار لشعوبهم. نريد عهداً جديداً يسوده الأمن والاستقرار وتنعم فيه الشعوب العربية وشعوب العالم أجمع بالسلام. وحتى إذا أردنا أن نناضل من أجل قضايا سامية مثل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، نستطيع أن نسمع صوتنا عالياً مدوياً دون إراقة الدماء ودون المس بأمن واستقرار البلاد. كما نستطيع أيضاً أن نتصدى للاحتلال والاستعمار بالطرق السلمية والمظاهرات الشعبية. في فلسطين يستطيع الفلسطينيون تعرية الاحتلال عالميا في حال تبنوا المقاومة الشعبية السلمية فعلاً وليس قولاً وشعاراً فقط. وفي سوريا، يحتاج الشعب السوري أن يلملم جراحه ويشحن طاقاته للنضال مجدداً من أجل التحول الديمقراطي والحريات. أما لبنان المنقسم طائفيا، فيحتاج اللبنانيون أن يقرروا جدّيا بالنسبة لتبنّيهم لخيار الدولة المدنية. أما اليمنيون والليبيون اليوم فهم بحاجة لوقف كل أشكال الاقتتال والنزاع وتحقيق الاستقرار حتى يقرروا وجهتهم في الحكم وطبيعة الدولة التي يريدون. وكذلك السودان بحاجة لمزيد من الاستقرار بعد ثورتها المجيدة حتى يتقدم شعبها الأصيل بخطى ثابتة نحو التحوّل الديمقراطي والدولة المدنية العلمانية. إذن فالحل لكافة قضايانا في العالم العربي اليوم يكمن في النضال السلمي الشعبي، والوعي المجتمعي لضرورة الأمن والاستقرار كمتطلب رئيسي وأرضية صلبة للبناء عليها، من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية والازدهار والعدالة الاجتماعية.
...
[email protected]
أضف تعليق