تنجح الدول وتتقدم في شتى المجالات وتنعم شعوبها بالازدهار والرخاء عندما يعرف الساسة كيف يتقنون السياسة، ولا علاقة للنجاح باسم الدولة أو صفتها أو اسم قائدها أو لونه أو دينه. فليس بالمسميات والصفات تنهض الدول، حتى لو أطلقنا على الدولة اسم الدولة الإسلامية أو المسيحية أو حتى دولة الإله فلا يقدم ذلك أو يؤخر في شيء، لأن اسم الدولة وصفتها شيء وطريقة عمل مؤسساتها في إدارة الشأن الداخلي والخارجي شيء آخر كليا.
لقد اختلف الناس في تعريف السياسة وكيفية إدارتها لأنها شيء غير ملموس وتعتمد على نظريات فلسفية عديدة ووجهات نظر مختلفة. ولهذا تقوم إدارة سياسة الدول على التجربة والتعلّم من التجارب الذاتية وتجارب الآخرين. ولا تكفي حسن النوايا وطيبة الأشخاص للنجاح في إدارة الدول. فالدولة عبارة عن مجموعة من المؤسسات الكبيرة التي يديرها موظفون من المفروض أنهم مهنيون محترفون متخصصون في العمل الذي تم تكليفهم به من اجل خدمة شعوبهم بأفضل الطرق. وكل مؤسسة من مؤسسات الدولة هي دولة صغيرة داخل الدولة الأم، لها متطلباتها الإدارية والمالية والتنظيمية حتى تنجح بالحد الأدنى. وبذلك يكون مجموع نجاح تلك المؤسسات بنسب محددة هو نجاح الدولة بتلك النسبة. فالدولة فيها وزارة الزراعة ووزارة الصناعة والداخلية والصحة والتعليم والعمل والتكنولوجيا ووزارة المالية ووزارة الخارجية وغيرها. وكل وزارة تعنى بقطاع معين من القطاعات التي تديرها الدولة. فقد تنجح وزارة الزراعة بنسبة ثمانون بالمائة، ووزارة الصناعة بنسبة خمسون بالمائة، ووزارة التكنولوجيا بنسبة ثلاثون بالمائة بينما قد تنجح وزارة الخارجية بنسبة أربعون بالمائة. وإذا أردنا أن نرى مدى نجاح السياسيين الذين يديرون تلك الدولة فيجب أن ننظر إلى نجاح كل تلك المؤسسات بنسب النجاح التي حققتها، ويكون معدل نجاح تلك الدولة هو نوعاً ما متوسط تلك النسب. ولذلك تتباين الدول في مستويات النجاح العام، وينعكس نجاحها على مدى رفاهية شعوبها وسعادتهم وأمنهم واستقراهم. وينبثق عن الإدارة الشاملة لسياسة الدولة، سياسات متخصصة للقطاعات المحددة. فمن المهم أن يكون هناك سياسات زراعية واضحة ينبثق منها استراتيجيات طويلة الأمد وخطط زراعية قصيرة الأمد، وهكذا في كل قطاع. فبدون استراتيجيات ورؤى واضحة لتطوير كافة مناحي الحياة، وبدون خطط تفصيلية تشمل كافة النشاطات والإنجازات المفترض تحقيقها في فترات زمنية محددة، لا يمكن أن تتقدم الدول بشكل منهجي، ويصبح أداؤها عشوائيا متخبطا تارة تنجح وتارة تفشل كالسفينة التائهة في اتجاهها.
ولذلك تبقى الديمقراطية والبناء الهيكلي للدولة المدنية العلمانية هي الضمان الأساس في تحقيق أي تنمية مستدامة وفي النجاح في إدارة السياسة وإدارة الدول، لأن الانتخابات والفصل بين السلطات والرقابة والمسائلة والمحاسبة هي الأدوات الأقوى التي أثبتت نجاعتها في ضمان عدم انحياز المؤسسات الديمقراطية عن أهدافها وضمان تصحيح أي أخطاء أو سوء إدارة لشؤون البلاد. وأي حديث عن دكتاتوريات أو بطولات فردية وقصص عاطفية تدغدغ المشاعر، هو بعيد عن الفهم الصحيح لإدارة الدول وسياساتها بالشكل العلمي والمهني المطلوب. ولهذا من المهم للشعوب العربية أن تعي المتطلبات الأساسية للتغيير والوجهة التي تريد الذهاب إليها قبل الإقدام على النزول للشارع والتظاهر ضد حكومة معينة وسياساتها. وهذا بالضبط كان السبب في عدم ديمومة الحراك العربي وسعيه للتغيير منذ انطلاق الربيع العربي عام 2011. فلا يكفي على سبيل المثال أن ينزل الشعب المصري العظيم للشارع ليتظاهر ضد الراحل حسني مبارك وإسقاطه وإسقاط نظامه، بل كان من المهم أن يعي الشعب المصري ما يريده تماماً بعد رحيل حسني مبارك ونظامه. وهذا ما لم يكن يعرفه الشعب المصري ومعظم الشعوب العربية، وما لم يقوموا بالتجهيز له والتحضير له بشكل علمي. نعم كان هناك شعارات مرفوعة تطالب بالدولة المدنية والحريات، ولكن لا تبنى الدول فقط بالشعارات. فقد ركب الإخوان المسلمون موجة الدولة المدنية واستخدموا ثورات الربيع العربي ليحرفوها عن مسارها الطبيعي ويشوهوها من أجل تحقيق شغفهم في الوصول للسلطة ودفة الحكم. والمصيبة أنّ حركة الإخوان المسلمين أبعد ما يكون عن إتقان السياسة وإدارة الدول، تماماً كما هي الدكتاتوريات العربية. فالإخوان المسلمون لم يتعلموا من حليفهم أردوغان أن الديمقراطية العلمانية هي النظام الأمثل في إدارة الدول. أما الدكتاتوريات العربية فعدوهم الأول هو الديمقراطية. وحتى بعد كل ذلك المخاض والتجربة الأليمة التي ذهب فيها ضحايا أبرياء، لم يتعلم الإخوان المسلمون وكل أحزاب الإسلام السياسي، وكذلك معظم الأحزاب العربية الوطنية التقليدية سواء اليمينية أو اليسارية، أنّ النظام الديمقراطي العلماني هو النظام الأمثل في إدارة الدول ونجاحها على الصعيد الداخلي وكذلك في إدارة العلاقات الخارجية. ولسنا بحاجة للرجوع كثيراً للوراء والبحث في التاريخ آلاف السنين في سياسات الدول والإمبراطوريات، بل كل ما نحتاجه هو النظر إلى الدول الناجحة في السياسة في أيامنا هذه والتي حققت نسباً عالية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وكذلك في الثقافة والفن والرياضة والموسيقى وكل مجالات الحياة. لذلك، ليس من المجدي لدولة مثل الأردن أن تقتدي بدول مثل السودان أو الصومال أو موريتانيا، مع احترامنا الكبير لهذه الدول العربية الحبيبة، إلا أنهم ليسوا مثلاً للدول الناجحة في إتقان السياسة والاقتصاد والتنمية ليتم الاقتداء بهم، بل مهم أن تنظر الأردن وغيرها من الدول العربية إلى دول أوروبية ناجحة فعلياً مثل سويسرا والنرويج وفنلندا وغيرها ممن حققوا نسباً عالية في الاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهناك أيضاً عدد من الدول الآسيوية التي ممكن الاقتداء بها. لذلك، علينا نحن العرب أن نتواضع قليلا، ونتقبل فكرة التعلمّ من تجارب الآخرين الحيّة، وليس شرطاً أن ننسخها تماما كما هي بل نأخذ منها ما نجحت به ونترك ما أخفقت به ونترك ما لا يلائمنا. إنّ الدولة ومؤسساتها وموظفيها موجودين لخدمة شعبهم ومساعدتهم وإسعادهم وليس العكس كما هو الحال في معظم الدول العربية حيث الحاكم هو الأهم من الشعب. ومن يُسقط عامل التعلم من تجارب الآخرين سيستمر في التخبط في سياساته التي يتبعها ويرهق شعبه لسنين طويلة بتجارب غير محسوبة وتعب وضياع لا داعي له.
...
[email protected]
أضف تعليق