تعتبر المملكة العربية السعودية حليفا خاصا للولايات المتحدة، وواحدة من أهم الدول بالنسبة لها، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ورغم ذلك فإن مقتل شخص واحد قبل عامين، دفع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لأن تسعى لتحقيق العدالة لدرجة يمكن معها تهديد العلاقة الخاصة بين البلدين، وهذا يعني بكل بساطة، أن إدارة بايدن مختلفة تماما عن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، لذا فمن المتوقع أن تطالب إدارة بايدن من قبل الكثيرين، ومنهم الفلسطينيون بالطبع، بأن تتبع المنهج السياسي نفسه، في القضايا كافة، ومنه ما ارتكبته إسرائيل كدولة احتلال بحق الشعب الفلسطيني من جرائم قتل عمد تصل لدى الكثير من المختصين بالقانون الدولي إلى مستوى جرائم الحرب.
في حقيقة الأمر أن السياسة الخارجية الأميركية كان من المتوقع أن تشهد تغيرا حاسما ومهما، منذ انتهاء الحرب الباردة، نظرا للتغيرات الكونية التي شملت العالم بأسره، والتي أعلت من شأن حقوق الإنسان في كل مكان، وباتت معها كل مظاهر الاستبداد السلطوي وما يرافق الحروب من جرائم، غير ممكنة الوقوع دون حساب، وخير دليل على ذلك تشكيل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وهي أول محكمة عالمية قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والتي تشكلت العام 2002، لتنظر في تلك الجرائم التي وقعت بعد تشكيلها، وتتمتع بقوة دولية، رغم أنها محكمة مستقلة عن الأمم المتحدة، لكن توقيع 122 دولة على قانون إنشاء المحكمة بعد مرور عشر سنوات فقط على إنشائها يمنحها تلك المكانة الخاصة في حقل القضاء الدولي.
أن تعلن المحكمة إطلاق تحقيق رسمي في قضية ارتكاب جرائم حرب إسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يعتبر سابقة في غاية الأهمية، لمواجهة الاحتلال بكل تفاصيل جرائمه، وفي محاولة سد العجز السياسي بحكم معادلات المصالح السياسية للدول، التي عجزت بعد مرور العقود الطويلة عن وضع حد لذلك الاحتلال بممارسته اللاإنسانية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل الواقع تحت نير ذلك الاحتلال، ويعتبر إنجازا للقيادة الفلسطينية، خاصة أن قرار المحكمة بفتح التحقيق جاء بعد دراسة وافية، وبعد تروٍ وطول تدقيق وتمحيص، استمر خمس سنوات، من البحث في صلاحية المحكمة البت في ما وقع في تلك المنطقة، أي الأراضي الفلسطينية، ثم في الملف المقدم، والذي حدد الفترة بدءا من الثالث عشر من حزيران 2014، والتي تغطي آخر حرب شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة.
حاولت إسرائيل جاهدة، ومستخدمة قوة ونفوذ البيت الأبيض في عهد ترامب، الضغط والتهديد حتى تمنع المحكمة من إصدار ذلك الإعلان من الأصل، لكن فشلها في نهاية المطاف يثير الذعر في أوصال قادة الحرب الإسرائيليين، وهم في الوقت نفسه قادة الدولة ومسؤولوها، الذين يتخذون قرارات الحرب وما تتضمنها من قرارات القتل الفردي والجماعي، وكل ما تتضمنه الحرب من تدمير وجرائم مختلفة بحق المواطنين الفلسطينيين، إن كان بشكل فردي، أي قرارات التصفية والاغتيال، أو بشكل جماعي، من خلال القصف والغارات على الأحياء السكنية.
وشنت إسرائيل حربا على المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا، محاولة المساس بنزاهتها، رغم أنها تعلم أن المحكمة مؤسسة دولية قضائية دولية، لا علاقة للأهواء الشخصية أو الفردية في قراراتها، وهي بذلك، أي إسرائيل تبدو كما هو حال اللص أو المجرم الذي يخشى القضاء، لأنه يعرف أنه مذنب، وأنه قد ارتكب الجرم الذي يعاقب عليه القانون، فيما البريء عادة، لا يخشى القضاء خاصة حين يكون بهذه الصفة الدولية والمستقلة، أي التي لا تقيم وزنا أو حسابا لاعتبارات السياسة التي تقيد من إطلاق الدول لنزاهة القانون وموضوعيته.
المهم في الأمر، أن بنسودا على موعد مع انتهاء فترة عملها كمدعٍ عام للمحكمة في حزيران القادم، لكن ذلك لا يغير من الأمر شيئا، فالمحكمة هي مؤسسة عامة تنظر للقضايا المرفوعة لديها بموضوعية ونزاهة، كذلك فإن صاحب الدعوى ليس فردا ولا شخصا، بل هو الطرف الفلسطيني، الذي وقع عليه الجرم، لا يتغير الحال مع تغير الأفراد في السلطة الفلسطينية، فيما يبقى المتهم محددا، وهذا سيتبين مع مجريات التحقيق، ومن ثم مع انتهائه، رغم ذلك فإن إسرائيل تراهن على احتمال أن يقدم كريم خان، وريث بنسودا على إلغاء القرار، كذلك على أن التحقيق يأخذ وقتا طويلا، يستمر لسنوات عديدة قادمة.
الجرائم التي ترتكب من قبل المسؤولين الحكوميين، في غير مكان من العالم، باتت تشهدها المحاكم المختلفة، فنحن هنا في الشرق الأوسط، شاهدنا بأم العين رؤساء ومسؤولين في قفص الاتهام، ومنهم من أدين، وحكم عليه بالإعدام، لذا فإن رؤساء وقادة الدول الكبرى أو القوية عسكريا، حتى لو كانت تعتبر ديمقراطية، ليس على «رأسهم ريشة» كما يقال، فها هو دونالد ترامب يخضع للمساءلة البرلمانية، قبل وبعد أن غادر البيت الأبيض، وها هو بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية يواجه القضاء في بلاده بتهم فساد متعددة، فكيف يستهجن أن يقف الرجل نفسه أمام القضاء كمتهم بارتكاب جرائم بحق الشعب الفلسطيني، الذي يناصبه العداء ويكن له كل الكراهية، ولا يخفي ذلك ليل نهار، بل يجعل من ذلك مادته الانتخابية، بما تتضمنه من تجاوز لكل مكونات القانون الدولي، بما في ذلك رعاية الاستيطان، ومواصلة فعل الاحتلال.
فتح التحقيق مع ذلك لا يعني أن الإدانة بحق قادة إسرائيل قد تحققت فعلا، رغم أننا نعرف أن ما ارتكبه وما زال يرتكبه قادة إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، يعد جرائم إنسانية تصل لمستوى جرائم الحرب، بكل معنى الكلمة، كذلك نعرف أن فتح التحقيق لن يشمل تلك الجرائم التي يندى لها الجبين والتي ارتكبت منذ العام 1948 وإلى اليوم، لكن مع ذلك نقول إن التحقيق قد يفضي إلى إدانة نحو 200 - 300 إسرائيلي، وإنه يعتبر رادعا بدرجة ما لأن قادة وضباط وجنود الاحتلال سيراجعون أنفسهم منذ اليوم، أكثر من مرة، قبل أن يسارعوا إلى الضغط على الزناد، ليقتلوا الفلسطينيين، كما لو كانوا في رحلة صيد، حين يخرجون للحرب.
[email protected]
أضف تعليق