إذا أردنا تنظيف بلداتنا العربية من الأسلحة فلابد من سقوط المزيد من الأبرياء. هذه حرب عصابات، رزقها دماء وخبزها رصاص. لا يمكنك ان تسلب شخص مصدر رزقه وتنتزع منه لقمة عيشه دون ان يقاوم. لا يمكننا اجتثاث هذه الجرثومة من مجتمعنا دون ثمن. هذه عملية جراحية مقيتة ومؤلمة لورم خبيث انتشر بوتيرة سريعة في كل انحاء مجتمعنا. نعم سيسقط أبرياء غيرك يا احمد بهذه الحرب كما هو الحال في كل حرب، فعذرًا سلفًا. نحن مضطرون لخوض هذه المعركة، ولا نقبل التأخير في قطع دابر هذا الوباء الخطير. ليس في صالحنا التاجيل، تأخرنا كفايتنا، والا سنعطي ضوء اخضر لاستمرار تلك العصابات في إرهاب مجتمعنا، وتطوير تقنياتها وأدواتها واستراتيجياتها.
مجتمعنا على مر التاريخ احتاج الى البارود والسلاح للدفاع عن نفسه. في القرن التاسع عشر انتشرت عصابات قطاع الطرق على رحلات قوافل التجار، وقصص النهب والقتل انتشرت في جبال القدس على طريق يافا وغيرها. في سنوات العشرين والثلاثين من القرن العشرين استخدم السلاح لمواجهة العصابات الإرهابية الصهيونية التي اغارت على قرانا لإرهاب السكان وتهجيرهم من بيوتهم. هذا أدى الى اعتبار السلاح أداة مهمة وشرعية للدفاع عن النفس والمقاومة. فكتبت الاشعار فيه وتغنى الناس به فخرًا ومجدًا. بل صار الناس يشهرون أسلحتهم بالأعراس والمناسبات دون حياء لأنه يدل على القوة والهيبة. ليس صدفة ان تحرك الأغاني الشعبية عن السلاح وجدان العربي: "خلي البارود يهلل ويحليها".
مع قيام دولة إسرائيل تم نزع وتجريد المواطنين العرب من الاسلحة نهائيًا، وبهذا تم طمس قصري لجزء من ميراثهم الوجودي والاجتماعي دون وضع خطة توعية او اشفاء حقيقية. هذا هو حال الدولة بالتعامل مع المواطنين العرب في الكثير من القضايا، فهي غير حساسة لخصوصية واحتياجات هذه المجتمع، وتتعامل معه بفوقية، مسقطة عليه املاءاتها دون ان تستثمر فيه بوضع خطط طويلة المدى لتطبيق شرعها وقانونها، وهو ما يعرف بتربية الجزرة والعصا. لكن حاجة العربي للسلاح غريزية وفطرية، فما كان من رؤساء العشائر والعائلات الكبيرة بل والأفراد الى البحث عن طرق بديلة لحيازة السلاح. استغلت الدولة هذه الحاجة واستدرجت المخاتير والاعيان للتعاون معها والوشي بالمقاومين والمجاهدين، حتى قبل قيام الدولة ابان الانتداب البريطاني، وغضت بصرها عن أسلحة تلك العشائر وابنائها مقابل تعاونهم وعمالتهم. وكان هذا حجر الأساس في تجنيد فئات من مجتمعنا للجيش الاسرائيلي. فالتحاق الفرد بالجيش يعطيه مباشرة رخصة سلاح تؤهله لاقتناء سلاحه الخاص لاحقًا، فيسترد بذلك شرفه وهيبته وتتعزز مكانته ومكانة قبيلته بحسب الأعراف المتوارثة. ناهيك عن التسهيلات الأخرى من فرص عمل ومسكن.
في العقدين الأخيرين، وتحديدًا بعد الانتفاضة الثانية واحداث أكتوبر 2000 التي استشهد خلالها 13 مواطنًا عربيًا من الداخل نتيجة لقمع الشرطة لمظاهرات واحتجاجات الغضب، نشأت ازمة ثقة حقيقية بين الشرطة والمواطنين العرب وعلى راسهم أعضاء الكنيست العرب والقيادات المحلية الوطنية. فتراجع دور الشرطة في البلدات العربية عن قصد خصوصًا في قضايا السلاح. فعلى الرغم من افتتاح مراكز شرطة جماهيرية في معظم القرى العربية بعد ذلك، الا انها عالجت بالأساس القضايا المدنية ولم تلتفت الى حل قضية السلاح الاخذ بالانتشار تحت سمعها وبصرها، في محاولة منها تلقين المجتمع العربي درسًا تاريخيًا سيستعصي حله مستقبلًا.
من جهة ثانية وعلى ضوء التضييق على السلطة الفلسطينية من قبل الحكومة الإسرائيلية اليمينية، وبعد تجميد عملية السلام في المسار الفلسطيني في عهد نتنياهو ومحمود عباس، ازدهرت في الضفة الغربية وتحديدًا في قضاء مدينتي طولكرم وقلقيلية ورشات صغيرة لصناعة وتعديل الأسلحة الخفيفة لاسيما المسدسات والبنادق خصوصا من نوع "كارلو" سهلة التركيب والعبوات الناسفة والقنابل الصوتية التي صارت تدر على هؤلاء الحدادين والحرفيين أموالاً طائلة تحت اعين الأذرع الامنية الفلسطينية والإسرائيلية ومخابراتها بما يعرف بالتنسيق الأمني بين الطرفين. فصار تهريب السلاح أسهل من تهريب البيض واللحوم على المعابر لا سيما الى منطقة المثلث الجنوبي حيث يعيش الاف الفلسطينيين بتصاريح عمل او عقود لم شمل.
ومع هذه الاتاحة والتسهيلات نشأت عصابات الاجرام في مجتمعنا العربي وازدهرت ودخل السلاح الى بيوتنا دون رقيب او حسيب، وكان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين عبارة عن وضع الأسس والبنى التحتية لتلك العصابات وبناء ثوابتها وقوانينها الداخلية وتوزيع مناطق نفوذها حتى لا تصطدم ببعضها البعض مستقبلًا. هكذا دخلت هذه العصابات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لتنطلق بعملياتها النوعية، فانتشرت في السنوات الأخيرة عمليات السطو المسلح على المصالح التجارية بما يعرف باسم الخاوا، واعطت هذه العصابات الأسلحة للعائلات المتناحرة على الانتخابات للسلطات المحلية، ووسعت اعمالها لتنفيذ عمليات سطو وإرهاب لصالح كل من يدفع بدل خدماتها.
وانجرف شبابنا نحو هذه الافة مع غياب مؤسسة التربية والتعليم التي انشغلت في رفع التحصيل العلمي بحسب توجيهات وزارة التربية والتعليم مهملة دورها التاريخي في تربية وتنشئة جيل الغد، الذي عزف عنها ومقتها وصارت عبئًا ثقيلًا عليه، كل همه وهم اهله ان ينتهي منها بنجاح. وشكلت مسلسلات مثل الأسطورة والهيبة وافلام مثل العراب وغيراها قيم بديلة في ظل غياب دور المدرسة، وصارت مصدر الهام للكثير من الشباب الذين تم تجنيدهم ضمن تلك العصابات ناهيك عن العاب الانترنت مثل (الفورت نايت والببجي والكول اوف ديوتي) بمضامينها الاجرامية المتمثلة باستخدام أحدث الأسلحة وتعاطي مخدرات وتحشيش وتدخين يمارسها الشاب بنفسه عن طريق محاكاة افتراضية، فتدفعه لتجربيها في العالم الواقعي المعاش.
أصبحت ثقافة الهيبة جزءً من تراثنا فتسللت الى فئات الشباب وأصبحت تترجم على شكل قصات شعر تشبه قصة شعر (محمد رمضان) في مسلسل رمضاني وتدخين الحشيش وغيرها، ولبس بلوزات سوداء من ماركت عالمية مثل (بير كردين وبوس ولاكوست وتومي). إضافة الى لغة جديدة اخذت تنتشر بين شبابنا وقاموس لم يعهده جيل الإباء ولم يربوا أولادهم عليه احتوى على كلمات مثل (بعرضك وعرض خواتك وأمك، دود). واصبحت أغاني المهرجان المصرية أمثال أغاني (حسن شاكوش وحمو بيكا) التي تتحدث عن اخلاق وقيم رجال العصابات وتعطيهم تبريرات لما يفعلونه، هي البدائل القيمية التي يتغذى عليها شباب اليوم.
لم تفقد المدرسة لوحدها دورها في تربية هذا الجيل بل تعداها الى دور الإباء والامهات الذين فقدوا السيطرة على هذا الجيل لصالح شبكات التواصل العنكبوتية التي تبث لهم 24 ساعة مواد حول الهيبة وكل ما تقدم. لم تعد الام او الاب يفهمان من اين يجيء طفلهما الذي رباه "كل شبر بنذر" بهذه القيم وهذه اللغة في شبابه!
اعيد واكرر، نعم فقدنا السيطرة على شبابنا، هذا جيل يتربى ويتغذى 24 ساعة على مضامين ولغة يذوتها يوميًا من خلال تواصل عبر الشبكة العنكبوتية. شباب اليوم منعزلين عن أهلهم وذويهم بل حتى عن معلميهم ومدارسهم. المدرسة بالنسبة لهؤلاء الشباب مجرد أداة لجمع اللعلامات التي أصبحت توزع عليهم بالمجان دون بذل جهد حقيقي. اما دور المعلم المربي فقد غاب وتبخر امام دور التواصل الاجتماعي الانترنتي.
للخروج من هذا الوضع اقترح امرين:
أولا خوض حرب شرسة فورية ضد عصابات السلاح بالتعاون مع الشرطة والحكومة بأذرعها المختلفة وسيكون لهذه المعركة خسائر في صفوف الأبرياء كما حصل اليوم في طمرة.
ثانيًا يجب وضع خطة تدخل شاملة لجهاز التربية والتعليم التقليدي فكل شاب حتمًا بحسب قانون التعليم الالزامي سيتربى ويتتلمذ في أحد المدارس نحو 12 عامًا يمكن استغلالها للتأثير على مصيره من خلال وضع خطة عمل وتدخل تربوي مبني على زرع قيم وثوابت بدء من جيل الطفولة المبكرة، يشمل تدريبات ومشاركة مجتمعية حقيقية وانخراط في حياة مجتمعنا خارج إطار المدرسة.
نعم، مدارسنا تعج برجال العصابات المستقبليين هم هناك يجلسون اطفالا على مقاعد الدراسة، يجب ان نصل إليهم ونؤثر عليهم ونغير مصيرهم.
هذا ممكن فقط من خلال الحكومة ومن خلال وزارة التربية والتعليم التي لا ترى نفسها شريكة لهذه الرؤية. وهي لا ترى نفسها حتى الساعة شريكة في تربية جيل المستقبل ولا جزءً من حل مشكلة العنف المستشري في مجتمعنا، على أساس ان ما يجري في الشارع لا علاقة للمدرسة فيه، كأنها منقطعة ولا علاقة لها بما يحدث خارج اسوارها العالية. فمثلا اليوم اعلن اضراب شامل في بلدة طمرة احتجاجًا على قتل المرحوم الشاب احمد حجازي رميًا بالرصاص عن طريق الخطأ، الا ان وزارة التربية والتعليم فرضت على معلميها في طمرة التعليم بشكل اعتيادي عبر الزووم وعدم الالتزام بالإضراب! مع العلم ان كل طمرة والمجتمع العربي مصعوق بما حدث الليلة الماضية! أما في مدارس البلدات الأخرى في مجتمعنا العربي لم تقم الوزارة بتوجيه المعلمين لفتح الموضوع لمناقشته بين المعلمين والطلاب كأن الامر لا يعنيهم وكأن امرًا لم يحدث!
علينا التحرك فورًا لعلاج مجتمعنا من افة استشرت واستفحلت فيه. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]