الهزات الأرضية تقاس بمدى قوتها، ومقياسها الأساس هو مقياس ريختر المقسم إلى ١٠ درجات، وكثيراً ما تكون هذه الهزات عند درجة معينة مدمرةً في دول، لكنها قد لا تخلف خسائر ذات قيمة في دول أخرى، وذلك يعتمد على مدى مرونة البنى التحتية ومقاومتها للهزات الأرضية.
في المقابل، فإن الهزات السياسية التي تضرب كثيراً من دول العالم يعتمد تأثيرها على صلابة النظام السياسي ومدى قدرته على التحمل وامتصاص الهزة المفاجئة.
الهزات السياسية كما الأرضية لا تستثني أحداً، فالدول المصنفة في قمة سلم الديمقراطية أو حتى الديمقراطية الليبرالية التي تركز على حرية الفرد وحقوقه بشكل أساس وحتى الدول الديكتاتورية غير محصنة منها.
ما حصل في واشنطن، أول من أمس، هزّة سياسية ضربت أسس الديمقراطية الأميركية الراسخة التي تجذرت مع الاستقلال الأميركي في الرابع من تموز في العام ١٧٧٦، أي بعد نحو ٢٥٦ عاماً، وربما هي الأعنف، على الرغم من أنها ليست الحادثة الأولى التي يتم فيها اقتحام مبنى الكابيتول، لكن الظروف التي أحاطت بالهزة الترامبية مختلفة تماماً، فهي سابقةٌ أن يحرّض رئيس أميركي بشكل مباشر على العنف، ويلهب العواطف بخطاب شعبوي غايةً في الخطورة، بمعنى أن رئيس الهرم السياسي هو الذي خلق أمواج الغضب والاندفاع حتى غمرت الكونغرس الذي كان في جلسة تاريخية لإقرار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
بعد جدل طويل، كان الرئيس ترامب مصراً قبل الانتخابات بأسابيع وحتى مساء الخميس على أن الانتخابات مزورة وقد سرقت منه بعد أن فاز بها بنسبة كبيرة.
أخطر ما كشف عنه زلزال الكونغرس الترامبي، أمس، وجود شرخ كبير في ثقافة الحوار الأميركية، هذه الثقافة التي تبدو الآن أكبر المتضررين، بعد أن بات الاصطفاف فيها واضحاً، وطفا الانقسام العرقي على السطح بعد عقود على اختفاء المكارثية وجماعة «كو كلوكس كلان» (KKK) وهي المنظمة الأخوية التي تأسست في ولاية تينسي في العام ١٨٦٦ وهدفها وقف إعادة تأسيس الولايات المتحدة ومعارضة تحرير العبيد خاصةً بعد الحرب الأهلية الأميركية وإيمانها المطلق بتفوق العرق الأبيض إضافة إلى عنصريتها المطلقة.
الترامبية التي حكمت الولايات المتحدة منذ العام ٢٠١٦ حملت معها بذور العنصرية العرقية، فمنذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض برزت قراراته بمنع جنسيات معينة من دخول الولايات المتحدة ووقف الهجرة وبناء الجدران وغير ذلك من القرارات التي كانت سبباً في نشوة غير مسبوقة لدى اليمين المتطرف الأميركي وحتى اليمين المتطرف خارج أميركا، ما تسبب باحتقان اجتماعي كبير لدى الأميركيين من أصول إفريقية ولدى الأقليات العرقية والدينية.
تغذية الكراهية والعنصرية استمرت طيلة أربع سنوات وظهرت نتائجها بشكل واضح مع بداية الإغلاق بسبب جائحة كورونا، مع رفض المنظمات اليمينية العنصرية فكرة الإغلاق، وتسببها في أكثر من مرة بمواجهات مع سلطات إنفاذ القانون، علاوة على تحديها الحظر وارتداء الكمامات، وإقامتها تجمعات مسلحة في أكثر من منطقة.
جاءت القشة التي قسمت ظهر الديمقراطية الأميركية مع نتائج الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني الماضي، حين لم يعترف الرئيس ترامب بهذه النتائج واعتبرها مزورة بل أعلن أنه الفائز، معتمداً على نظرية التـأثير غير المباشر على الإعلام من خلال إعادة تكرار مقولة إنه الفائز وإن الانتخابات قد سرقت، وإن اللصوص هم من يقفون ضد إعادة عظمة أميركا... هذا التكرار اليومي بدأ قبل الانتخابات ثم توالى بعدها وصولاً إلى التوجه إلى القضاء، ثم الضغط على الولايات التي يترأسها جمهوريون، كل هذا تسبب بمزيد من الانقسام الفئوي والعرقي.
ترامب المهووس بجنون العظمة الذي داس كل من وقف بوجهه، قذف في قلوب كثير من الجمهوريين الرعب حتى أصبح النفاق ظاهراً في تعاملهم معه، اعتقد أن كل شيء مباح له، حتى في تعامله العنصري مع أعضاء الكونغرس وبالذات مع إلهان عمر ورشيدة طليب.
خطابه يوم الأربعاء أمام حشد غوغائي متعصب عرقياً ومطالبته إياه بالتوجه إلى مبنى الكونغرس الذي يبعد مسافة قصيرة عن مؤيديه لإلغاء نتائج الانتخابات وإصراره على مخاطبته الغوغاء بأنهم خط الدفاع الأخير عن عظمة أميركا بوقوفهم سداً أمام المنحرفين الاشتراكيين واليساريين - وإشادته السابقة بعظمة «براود بويز» وهي أخوية مؤمنة بالشوفينية البيضاء تقصر عضويتها على الذكور، وزادت من قوتها على الأرض خلال رئاسة ترامب وكانت رأس الحربة في اقتحام مبنى الكابيتول -
كان الزلزال الذي تسبب بموجات تسونامي عنصرية وإرهابية ضربت الكونغرس وأجبرت أعضاءه على الهرب والاختباء من قبضة المنفلتين.
الفلاسفة يقولون إن الحمقى يصنعون التاريخ، ومما لا شك فيه أن ترامب دخل فعلاً التاريخ من خلال إحداثه شرخاً وجرحاً لن يندمل في النظام الديمقراطي الأميركي، وربما أكثر من ذلك من حيث إعادة التأسيس لجماعات الكونفدرالية الذين لا يزالون يذكرون هزيمة الولايات الجنوبية الست (ولايات الرق) التي أعلنت قيام حكومة منفصلة عن الولايات المتحدة في ٨ شباط ١٨٦١ قبل هزيمتها واندثارها واستسلام الجنرالات الذين قادوا معاركها في العام ١٨٦٥، وربما هذا ما يفسر أن يحمل عشرات المقتحمين أعلام الكونفدرالية البائدة.
الأيام القادمة ربما تحمل كثيراً من المفاجآت الترامبية ومنها ما تتوقعه بعض وسائل الإعلام بإعلان ترامب العفو عن كل المشاركين في الحدث الإرهابي في مبنى الكابيتول الأميركي وعن نفسه أيضاً تحت مسمى المصالحة الوطنية الذي تحدث عنه أول من أمس، هذه هي الترامبية وهذه هي الشعبوية، فهل يستيقظ صانعو الديمقراطية لمواجهة الخطر الداهم والهزات السياسية المدمرة التي انتشرت كوباء خبيث في دول تصنف ديمقراطيتها على أنها عريقة ومترسخة.
لكن بعد وصول مسرحية ترامب إلى نهايتها، ربما يتساءل كثيرون: لماذا لم يقرع الأميركيون جدران خزان العرقية والعنصرية وتغول ترامب وتصريحاته اليومية واحتقاره للجميع، وتلطيشه قيادات العالم واستفزازه إياهم.. حتى وصل جنون العظمة إلى ما منتهاه؟!
[email protected]
أضف تعليق