يُمكننا اعتبار افتتاحنا للسنة الجديدة قبل أيام واحدًا من أصعب افتتاحات الأعوام وأسوئها في فترتنا الراهنة، ففي صبيحة اليوم الأول من كانون الثاني الجاري قُتل شاب ما زال في ريعان شبابه من بلدة الجديدة، وفي مساء اليوم ذاته مزقت سكاكين العنف رجلًا بالغًا في الخمسينيات من عمره من بلدة الطيرة، أما في اليوم التالي فقد جاءت الأخبار الكارثية من ضاحية كفر عقب المقدسية لتنبئنا بمصرع ثلاثة أشخاص على يد أقارب لهم وإصابة خمسة قيل أن بينهم اثنين اصاباتهما خطيرة، المُجمل العام لعدد القتلى العرب بهذا تكون قد بلغت الخمسة قتلى خلال يومين اثنين فقط، ونحن إذا ما عدنا إلى العام المنصرم للتو لسجلنا بأحرف من ألم تفجع وتحزن الآهة تلو الآهة على أكثر من مائة قتيل عربي اغتالتهم يد الغدر في غفلة من عين الزمن مُستلة إياهم من بين أهاليهم وأحبائهم لتحولهم بذلك من أجسام حية نابضة إلى إرقامٍ شياطينُ الشر لأرواحهم قابضة.
هُنا يُطرح السؤال الأساسي الذي طالما طُرح وتردد وهو: لماذا كل هذا العنف؟، من أين يأتي؟، من المسؤول عنه وكيف يمكننا كبح جماحه؟، وهل توجد طريقة يُمكن أن تحد من تفشيه وانتشار النار في الهشيم؟
للإجابة على هذا السؤال أطرح فيما يلي عددًا من الأسئلة منوهًا أنها سُبق وطرحت بهذا الشكل أو ذاك، ومحاولًا في الآن ذاته أن أقدح زناد الفكر لإيجاد أجوبة قد تُفيد أو قد تدفع للتفكير على الأقل مبتدئًا إجابتي هذه بالإشارة إلى أننا لا نمتلك مفاتيح سحرية لمواجهة وباء العنف والجريمة الذي لا يقل خطورة عن وباء الكورونا الذي اجتاح العالم حصد وما زال يحصد الأرواح.
البُعد الاجتماعي لظاهرة العنف
إجابة عن السؤال من أين يأتي كل هذا العنف أقول إن مسبباته كثيرة ولعل أبرزها يتعلق بالتربية البيتية الخاطئة، تلك التربية التي تنطلق من رؤية ضيقة تتمثل في تحريض الأُم أو الأب على رد الصاع للمُعتدي صاعين، في هذا المنطق تكمُن إحدى بذور الشر القتالة، فما أن يرُد المُعتدى عليه على العنف بالعنف، مقصودًا أو غير مقصود.
تبدأ بذرة العنف بالتفتح والتوهج في داخل كل من الاثنين المُعتدي والمُعتدى عليه، فبدلًا من أن نوجه أبناءنا إلى أهمية التروي التأني والتفكير وانتهاج الأساليب السلمية، العقلانية والمنطقية، نوجههم إلى استعمال اليد العصا والسكين وفي السنوات الأخيرة إلى المسدسات والأسلحة الأوتوماتيكية، ولعلّه من الواضح أنني لا أدعو هنا لأن يكون أبناؤنا مطبات للآخرين وإنما أدعوهم لان يكونوا أُناسًا حضاريين يُتقنون التعامل العقلاني مع المشكلة ولا يعالجونها بمشكلة أُخرى أكبر منها بكثير وتستعصي معالجتها حد الاستحالة، أقول هذا عن البيت المدرسة الأولى للأبناء، أما عن المدرسة البيت الثاني لهؤلاء فانه يُطلب من المدرسة أن تقوم بدورها التربوي وليس التعليمي فحسب من أجل معرفة الآخر المُختلف واحترامه وذلك بوضع خطة شاملة تحتوي برنامجًا مُركزًا يبدأ في الدروس اللامنهجية وينتهي بلقاءات طلابية مع أخصائيين من أهل العلم والمعرفة في مجالاتهم التربوية المختلفة انتهاء بالمعلم المؤهل المُرشد، ما أُود قوله هنا هو أننا لسنا طرفا سلبيًا في معادلة العنف والجريمة المتصاعدة، كما قد يخيل للبعض، وإنما نحن طرف إيجابي ويمكننا أن نقوم بدورنا في الحد من انتشاره على أتم وجوهه، صحيح أن نتائج هذا الدور لا تُرى بالعين المجردة إلا أنه دور مؤثر وإلا فإننا سنبقى رهن دائرة العنف المقيتة وسوف يأتي علينا زمان نقول فيه يا ليتنا.
دور السلطة الحاكمة وانتشار السلاح
دَرج الكثيرون منا على ترداد ما طالما تردد من أن السلطة التنفيذية، الشرطة تحديدًا، هي المسؤولة رقم واحد عما يحصل وأنها لا تقوم بدورها كما يُفترض في جمع السلاح الحامي المنتشر في مجتمعنا العربي بصورة مفزعة، بغض النظر عما ينم عنه هذا الادعاء من دعوة واضحة للاندماج في المجتمع الاسرائيلي من أعلى الرأس إلى أخمص القدم، نقول أن الشرطة تتحمل بلا شك جانبًا من المسؤولية من هذه الناحية، لكن يضل علينا حينها السؤال وما دورنا نحن؟، هل يكفي أن نعلّق مخلفات ما زرعناه من بذور العنف وما زرعته أفلام العنف والتهور في الأبناء على شجب الشرطة؟، ومع موافقتنا على أن انتشار السلاح في مجتمعنا العربي قد يكون واحدًا من أسباب العنف ومُحرضاته، إلا أننا نذهب إلى أبعد من هذا فنرى أن مسببات تفشي ظاهرة العنف والجريمة بين ظهرانينا إنما يعود إلى العقلية التي نتصف بها ومحدوديتها، لمن لا يوافقنا هذا القول نسأله ألا يحتمل أن يُقتل الإنسان بالعصا أو بالسكين أو حتى باليد؟، وهذا يعني أنه علينا أن نتحمل المسؤولية كاملة وألا نلقي بتبعاتها على أكتاف الآخرين كما يفعل الأطفال عندما يوجه إليهم مربوهم أية تهمة فيتهربون من تبعاتها قائلين أن أخاهم الأصغر أو الأكبر أو حتى أي طفل آخر يمكث في المحيط هو من ارتكب ما لآلمهم عليه مربوهم، وعليه بالتالي أن يتحمل المسؤولية عنا وعنها.
في مواجهة ظاهرة العنف والجريمة
سبق وأشرنا إلى أهمية التربية على احترام الآخر المختلف في البيت والمدرسة في الحد من تفشي ظاهرة العنف والجريمة وإلى أهمية أن يتحمل كل منا مسؤوليته الخاصة فيما يتعلق بها، وها نحن نصل إلى نقطة هامة ويفترض أن تناقش بصوت عالٍ تتمثل في كيف يمكننا مواجهة هذه الآفة المُقلقة؟، إجابة على هذا السؤال نقول أنه يوجد هناك من يُحّمل منا القيادة المحلية المسؤولية فتصدّق هذه القيادة ما يُقال وتنجر إلى دائرة الحماقة فتلجأ إلى حلول وأعذار أقبح من ذنوب منها إصدار المناشير وتنظيم مسيرات السيارات وهنا نتذكر قصة كتبها أحد أُدبائنا الراحلين تحكي عن رجل يموت وهناك على مرتفع محاذ رجلٌ آخر يتلو خطبة عصماء.. فهل تنفع مثل هكذا خطبة في مواجهة شبح الموت المقترب؟، أعرف أن الكثيرين سيستشيطون غضبًا على مثل هكذا كلام، لذا أُهيب بالجميع مَن يوافقني ومن يرفض رأيي هامسًا في أُذنه أن مواجهتنا لظاهرة العنف والجريمة لا تتم بالمناشير والمسيرات وإنما هي تتم بوضع الخطط والبرامج التثقيفية وتنفيذها بصرامة للكبار قبل الصغار، فالجهل هو العدو الأول للحِلم وهو المحرض الرئيسي على الابتعاد عن لغة العقل الناطقة واللجوء إلى لغة اليد الخرساء، في المجمل نقول أن مواجهة ظاهرة العنف والجريمة بهذا أشبه ما تكون برحلة الألف ميل التي تبدأ بخطوة واحدة.. لكن سديدة.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
مقال رائع كل الاحترام