مع أنّ اللغة العربية كانت موجودة ومستخدمة قبل الإسلام، إلاّ أنّ التبحر بها والانشغال بعلومها يتطلبان معرفة واسعة بالقرآن الكريم، باعتباره المصدر الأساسي في الاستشهاد اللغوي، مع ذلك فإن هناك من غير المسلمين وخاصة المسيحيين العرب الذين أسهموا بحفظ هذه اللغة وعملوا على عصرنتها وتحديثها دون التخلي عن أصالتها، ما أسهم بتعزيز حضورها كوعاء للثقافة والتراث والأهم من ذلك الانتماء للهوية القومية العربية.
وإذا كانت هناك بعض الكنائس بالمنطقة العربية تقيم صلواتها وأنشطتها الرعوية بلغات أخرى كالسريانية فإن معظم الكنائس العربية تقيمها باللغة العربية الفصحى بما في ذلك وعلى الأخص الكنائس المارونية في فلسطين ولبنان وسورية والأردن أي بلاد الشام بشكل عام.
إلا أنّ دور المسيحيين العرب في نهضة اللغة العربية والحفاظ عليها لم يكن مجرد عمل لغوي قائم على حب هذه اللغة والاستمتاع باستعمالها فحسب بل إن ذلك يعود بدرجة مهمة إلى مواجهة عملية التتريك التي قامت بها الامبراطورية العثمانية لإحلال اللغة التركية كبديل عن اللغة العربية في الأقطار التي خضعت لها، كأحد أشكال مقاومة العثمانيين من خلال التمسك القومي بالهوية العربية، لهذا لم يكن من المستغرب أنّ هذا الاهتمام باللغة العربية والتمسك بها كان موازياً للنهوض القومي العربي إبان الاحتلال العثماني للمنطقة العربية فمنذ ذلك التاريخ شهدنا الدور الريادي لقادة القوى والأحزاب والتجمعات القومية العربية من المسيحيين العرب.
ولعل أول ما يلفت الانتباه إلى دور المسيحيين العرب في نهضة اللغة العربية والحفاظ عليها ما قام به ناصيف اليازجي المسيحي العربي اللبناني الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب بترجمة دقيقة للكتاب المقدس «الإنجيل» إلى العربية العام 1864 وهو أيضاً صاحب كتب في النحو العربي مثل كتاب «مجمع البحرين «وهو أشبه بالمقامات.
إلاّ أن الإنجاز الأهم في سياق دور المسيحيين العرب في حفظ ونهضة اللغة العربية تمثل في صناعة المعاجم العربية، ونقول صناعة لأنّ هذه المعاجم بشكل عام لم تقتصر على معاني الكلمات بل على أغراض المفردات اللغوية والأدبية والعلمية والجغرافية والتاريخية مع شروح تفصيلية متضمنة في بعض الأحيان الأمثلة من التراث العربي. ولم تكتف بذلك بل أعادت العديد من المفردات إلى مصادرها الأولية وقد ساعدهم في ذلك انفتاحهم على الحضارة الغربية وتمكنهم في اللغات الحية كالانجليزية والفرنسية، وبذلك أسهمت إمكانياتهم الموسوعية في إعداد معاجم تعتبر من أهم كنوز اللغة العربية وحافظة لها، ونخص هنا بالذكر ما عرف عنه باعتباره «أستاذ الجميع» في صناعة المعاجم ونقصد المعلم بطرس البستاني، كونه أول من وضع معجماً عربياً عصرياً وأول من أقام مشروع دائرة المعارف العربية حيث نشرت ستة أجزاء في حياته وخمسة أجزاء بعد وفاته على يد أبنائه وأصهاره، وهي شبيهة إلى حدٍ ما بدائرة المعارف الانجليزية إلاّ أنّ المعجم الأكثر شهرة هو «محيط المحيط» في مجلدين العام 1870 وتمت إعادة طباعته آخر مرة على حد علمنا العام 1977، إلا أن البعض أخذ على البستاني دعوته إلى تقريب اللغة الفصحى من العامية بهدف الاستخدام الأمثل للغة العربية في الحياة اليومية وطريقاً لتطورها والحفاظ عليها.
في يوم اللغة العربية 18 كانون الأول تحية لكل من حافظ على من يحفظ هويتنا القومية العربية، والمسيحيون العرب في طليعة هذه الكوكبة المتجذرة في هويتنا العربية.
[email protected]
أضف تعليق