بعد كل ما مرّ على الفلسطينيين وقضيتهم خلال العقود الثلاثة المنصرمة من صراعات داخلية وحروب، ومخاطر على الحقوق والأرض، وانقسام بغيض وحصار وتجويع، وانهيارات عربية متتالية يبدو أنه لم يعد ثمة ما يستحق ذرف الدموع.
يغادر من يغادر، موتاً أو استشهاداً أو هجرة أو استنكافاً، فإن ذلك لا يستدعي سوى الحد الأدنى من الاهتمام.
يتكيف الفلسطينيون مع كل أنواع المصائب الكبيرة والصغيرة وتتحول الرموز الكبيرة والأحداث الجسام، إلى مجرد كلمات تحتل مساحة محدودة ولفترة قصيرة شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعد بوسع الفلسطينيين أن يحتفلوا كما كانوا يفعلون ولا أن يحزنوا مثلما كانوا يفعلون، ولم تعد تراودهم أحلام أو حتى كوابيس. لكنهم ها هنا قاعدون على صدر الاحتلال ومستوطناته، وجيوشه الحربية والأمنية، ومخططاته الجهنمية.
رتيبة الحياة السياسية والاجتماعية، حتى لا يبقى للمستشرفين أو المحللين ما يفعلونه ذلك أن كل شيء مقروء لكل الناس.
جيل بأكمله، يرحل تباعاً، الواحد تلو الآخر من المؤسسين ومن حفظة التاريخ والذاكرة، ومن أطلقوا الرصاصات الأولى، تمر ذكراهم مرور الكرام، وكأن ثمة من يعمل على مسح الذاكرة الفلسطينية وشطب رموزها وأبطالها ما قد يجعل البعض يعتقد أن ثمة تواطؤا مع الإرهاب الإسرائيلي الأسود وإن كان بحسن نية.
في آخر المجالس الوطنية التي لم نعرف آخر تعداد لدوراتها، كان هناك عدم اهتمام بحضور جميع الفصائل. ليس مهماً من يحضر عددياً كان أو نوعياً الحضور، فالأهم هو توفر النصاب وتوفر القرار.
آخر فصول هذه الطريقة في العمل الوطني، كيفية التعامل مع الاستقالة التي قدمتها الدكتورة حنان عشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. نعرف أن الدكتورة حنان لم تستقل بسبب المرض، فلقد شفيت من «كورونا»، ولا بحثاً عن مواقع تستحقها أو تدّعيها ولا هي استقالت من العمل الوطني، أو أنها تهرب من المسؤولية في موقع القيادة الأولى للشعب الفلسطيني.
بخجل، واختصار شديد أصدرت بياناً توضيحياً مؤدباً لأسباب استقالتها، وخلاصته نصيحة قدمتها لإصلاح منظمة التحرير.
كان يمكن أن يأخذ بيانها التفسيري شكل الاحتجاج على ما تعانيه منظومة سلطة القرار الوطني، حتى دون أن تصيب شخصاً بعينه، لكنها آثرت أن تفعل ما يليق بسيدة وطنية محترمة.
الدكتورة عشراوي ليست شخصية وطنية وأكاديمية عادية، فهي سيدة أولاً ومسيحية ثانياً، وأكاديمية ثالثاً، وسياسية مخضرمة رابعاً وناشطة اجتماعية ومؤسساتية خامساً، إنها شخصية وطنية من الوزن الثقيل، ومن النوع الذي لا يجلس في بيته، ولا يتقاعد عن العمل الوطني والاجتماعي.
الاستقالة أعلنت، وما هي إلا أيام محدودة، تخللها اهتمام محدود، حتى غاب اسمها وغابت قضيتها ومشكلتها، وعادت الأوضاع كما كانت وكأن شيئاً لم يقع.
أمر الاهتمام من عدمه لا يتصل بفئة ما أو فصيل ما أو قائد ما، فالكل يتصرف وكأن الأمر لا يعنيه، أو أن حدثاً وقع لا يستحق الاهتمام بالقدر الذي يوازي قيمة الحدث.
في أيام سابقة، كانت استقالة عضو من اللجنة التنفيذية للمنظمة أو حتى من المستويات القيادية الأولى في الفصائل، تشكل حدثاً مهماً يستقطب الإعلام والمراقبين، ذلك أن القائد الوطني يتمتع بمواصفات لا تتوفر لآخرين، أما اليوم فإن القيادة لا تحتاج إلى تلك المواصفات الخاصة، وإنما الحسابات هي التي تعزز القيادات.
علينا أن نعترف بأن انسحاب الدكتورة عشراوي من اللجنة التنفيذية يشكل خسارة كبيرة وطنية وجندرية.
الشعب الفلسطيني فيه آلاف النساء الأكاديميات، ومئات الناشطات في مجالات المجتمع والحقوق والسياسة والاقتصاد، ولكن لا يوجد عشرات من مستوى كفاءة عشراوي حتى يتم الاستغناء عنها بهذه السهولة.
وعلى ذات المستوى من الاستهتار والبلادة يتصرف الجميع إزاء ما يتحقق من نجاحات لشخصيات وطنية عامة، لا تفصل بين حقها الذاتي وبين كونها تنصهر في اسم الوطن، فلسطين.
عصام يونس، مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان، والمفوض العام للهيئة الفلسطينية لحقوق الإنسان، وتزامناً مع موقعه أصبح وأصبحت معه الهيئة رئيس الشبكة العربية لحقوق الإنسان.
لا مجال للمرور على دوره ودور المركز والهيئة في الدفاع عن حقوق الإنسان في مختلف المحافل العربية والدولية، ولا مجال للحديث عن إنجازات مركز الميزان، ولكن التكريم الذي حصل عليه مؤخراً من فرنسا وألمانيا، يلخص هذه المسيرة.
الجائزة الفرنسية الألمانية التي حصل عليها باعتباره الشخصية الأهم مساهمة في الدفاع عن حقوق الإنسان، ليست نقدية، لكن مغزاها وأهميتها تفوق كل الأثمان المادية.
كانت هذه الجائزة كأنها رد قوي من قبل دولتين مهمتين، ولهما علاقات قوية مع إسرائيل على الحملات التي شنتها وتشنها الدوائر الإسرائيلية، وامتداداتها في العالم، والتي تحرض على طبيعة عمل الميزان، ومجلس إدارته، وتتهمه بالتحريض على الإرهاب.
لقد حاولت الدوائر الإسرائيلية تحريض بعض الدول المانحة لوقف التمويل المتواضع الذي تقدمه للمركز، وذلك من خلال تشويه سمعته والإساءة لأدائه وأشخاصه، وتلفيق تقارير كاذبة ما يعكس الأهمية والتأثير القوي الذي تلعبه منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية.
كان حرياً بالسلطات المسؤولة، وبالفصائل، ومنظمات المجتمع المدني أن تحتفل وأن تبدي اهتماماً كبيراً بهذه الجائزة، لكونها تقدم شهادة من أطراف دولية، على الأهمية التي يوليها الفلسطينيون لحقوق الإنسان.
ليس ذلك وحسب بل إن وسائل الإعلام الفلسطينية وما أكثرها قد أصيبت بالمرض ذاته، الذي يصيب المستويات الوطنية المسؤولة.
الإبداعات والنجاحات الفردية لعديد الفلسطينيين من الجنسين لا تحصى ولكن ما يغيب عنها هو الدعم ولو عبر احتفاليات بسيطة، وما يغيب عنها هو الرعاية الحقيقية الملموسة، بما يساعد على تطويرها وتحفيز مستحقيها، والآخرون نحو المزيد من الإبداعات والنجاحات.
مثل هذه البلادة لا تليق بشعب فلسطين، وقياداته وفصائله حتى لو كان هؤلاء مشغولين بالقضايا والاستراتيجيات الكبرى.
[email protected]
أضف تعليق