اثنان وثلاثون عاماً مرت على إعلان الاستقلال، لم يبق من ذلك الإعلان سوى عطلة عادية، وآمال لا تتزعزع في قلوب الفلسطينيين وعقولهم وإيمان عميق بحتمية تحقيق هذه الحرية والاستقلال.
أتذكر ذلك المشهد الاحتفالي العارم، الذي جعل أعضاء المجلس الوطني، يصفقون وقوفا، حين أعلن الشهيد الزعيم ياسر عرفات، وثيقة الاستقلال، لم ينتبه الكثيرون، آنذاك إلى ما تتصف وما تتضمنه تلك الوثيقة التاريخية، بقدر انتباههم لإعلان استقلال دولة فلسطين، ربما علينا أن نعترف بأن تلك الوثيقة التي صاغها الشاعر العالمي محمود درويش، تحمل كل سمات الوثيقة التاريخية سواء من حيث الإيجاز، ورقي اللغة، أو من حيث المضامين التي تلخص بعدد قليل من الكلمات، دستوراً شاملاً لأفضل السمات التي يمكن أن تعبر عنها دولة عريقة.
ارتفعت حرارة الحضور حماسة، حين وقف المرحوم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية، يهتف بصوت عال، ويردد المجلس من خلفه «ثورة ثورة حتى النصر، وحدة وحدة حتى النصر».
كانت تلك الكلمات تلخص درساً بليغاً انتقده الفلسطينيون منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، وهو أن الفلسطينيين يتمسكون بقدسية وحدتهم، رغم الاختلاف وربما الاختلاف العميق، جاء إعلان الاستقلال، ليختم أعمال المجلس، الذي شهد خلافاً بل صراعاً بين من يوافقون على اعتماد المجلس قراراً بالموافقة على قراري مجلس الأمن الدولي ٢٤٢ و٣٣٨، وبين من يعارضون ذلك، وكانت الأغلبية لصالح الموافقين.
في الواقع عبر الحوار حول قراري مجلس الأمن الدولي عن اختلاف بين منهجين سياسيين، ولكن ذلك لم يكن سبباً كافياً للتضحية بالوحدة الوطنية.
من حيث المبدأ لا يختلف الحال اليوم بالنسبة لصراع البرامج عن الصراع في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني التي شهدت إعلان الاستقلال وأسست لما يعرف من بعد بمبادرة السلام الفلسطينية، ولا يختلف أيضا عن الخلاف العميق في منظمة التحرير الفلسطينية لاحقا حول اتفاقية أوسلو ومنهج التسوية، لكن ذلك لم يؤد إلى انقسام منظمة التحرير الفلسطينية.
الاحتفال اليوم وكل سنة بإعلان استقلال دولة فلسطين، هو إعلان للتمسك بالأمل، وبالهدف، ذلك أن اثنين وثلاثين عاماً من صراع الإرادات، ومن النضال، لم ينجح خلالها الفلسطينيون في أن يهبطوا بالإعلان السياسي، إلى الجغرافيا حيث أرض الواقع.
ثمة مقاربات أخرى كثيرة ومهمة، تشير إلى مدى أهمية وأولوية الوحدة الفلسطينية، التي جرى التفريط بها، خلال مسيرة النضال الفلسطيني منذ أوسلو، حتى اليوم، باعتبار الانقسام مرضاً لم تنجح كل المحاولات حتى الآن في أن تجد له علاجاً.
قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى نهايات العام ١٩٨٧، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير في أسوأ أحوالها، وأضعفها، وكانت المنظمة بعد خروج مقاتليها وقياداتها من لبنان قد عاشت ظروفاً صعبة حيث الانقسام، السياسي والتنظيمي، والقتال في شمال لبنان، والضغط الأميركي المعلن لتخفيف موارد المنظمة، وفي ظل وضع عربي، عبرت عنه مواقف العرب من الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فوجئ الفلسطينيون والعرب والعالم، حين اندلعت الانتفاضة الشعبية الكبرى بعد أشهر قليلة من قمة عمان التي قدمت حبل الإنقاذ للمنظمة والقضية، وفرضت وقائع جديدة مختلفة على مختلف المستويات.
الانتفاضة لم تكن مسلحة، وإنما قدمت واحدة من أرقى أشكال النضال الشعبي والسياسي، ظهر خلالها أن الشعب الفلسطيني موحد، بالرغم من الانقسام بين قيادة وطنية موحدة، وأخرى إسلامية.
إن ما يبدو اليوم من استعداد لمعظم الأنظمة الرسمية العربية، للتخلص من مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، أمر ليس جديداً، فلقد كان هؤلاء قبل الانتفاضة مستعدين لأن يلقوا بهذا الحمل بعيدا.
ثمة درس بليغ لا يمكن الجدل بمدى أهميته وأساسيته وهو أن وحدة الشعب وقواه الوطنية، كفيلة بأن تعيد الأمور إلى نصابها، حيث تشكل القضية الفلسطينية موضوعيا الأولوية بالنسبة للشعوب العربية.
بعد اندلاع الانتفاضة عقد الزعماء العرب قمة أخرى أطلقوا عليها اسم قمة الانتفاضة، وقد اضطر هؤلاء لاتخاذ قرارات مهمة لدعم الانتفاضة والشعب الفلسطيني وفي تلك القمة، كان وفد منظمة التحرير، هو الأعلى صوتاً، والأكثر قوة.
هكذا يمكن الاعتماد على حقيقة أن وحدة وقوة الموقف الفلسطيني، تشكل حجر الأساس في طبيعة السياسات والسلوكيات العربية.
لا أرغب في أن أمضي، بتقديم النصائح والاقتراحات، كأمر تعودنا عليه في كتاباتنا وحواراتنا وصلواتنا وأكتفي بالقول إن وقائع الأحداث خلال العقود السابقة، تلزم الفلسطينيين بإعادة صياغة المشروع الوطني، وإعادة تعريف المرحلة بما أنها مرحلة تحرر وطني، مع ما يستلزم ذلك ويفرض من تغييرات جذرية.
وثيقة الاستقلال صاغت ذلك على نحو جيد، وبوضوح لا يقبل التفسير خصوصا حين اعتمدت قرار ١٨١، قرار التقسيم للعام ١٩٤٧، أساسا قانونياً دولياً، معترفا به من قبل الأمم المتحدة كأساس، لتحقيق الاستقلال.
اتفاقية أوسلو، تجاوزت ذلك، ولا يزال الفلسطينيون يتجنبون اعتماد ذلك القرار في حراكهم السياسي، وطالما أنهم تنازلوا عن حقهم التاريخي ثم تنازلوا عن حقهم وفق قرار ١٨١، فإن ذلك يشجع إسرائيل على فرض المزيد من التنازلات، وها هو الواقع المعيش يشهد على ذلك، إلى الحد الذي لا يقبل به الفلسطينيون، ويشجع إسرائيل على ابتلاع كل الحقوق.
قد يبدو أن إسرائيل اليوم ماضية بدعم أميركي نحو ابتلاع كل الحقوق الفلسطينية المرحلية والاستراتيجية، لكن الشعب الفلسطيني وقضيته ليسا لقمة سهلة البلع، وهو سيعلق في حلق المشروع الاحتلالي إلى أن يختنق، فلقد اثبت الشعب الفلسطيني أنه مصدر إبداع دائم وإرادة راسخة لانتزاع كامل حقوقه الوطنية التاريخية.
[email protected]
أضف تعليق