أن تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية، تاريخية وغير مسبوقة، إنما يؤشر على بداية التحول، نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا يكون فيه للولايات المتحدة موقع السيد الأعظم.
هذه الانتخابات غير مسبوقة من حيث طبيعة الصراع الذي ميز الحملات الانتخابية بين المرشحين، ومن حيث عمق الانقسام السياسي والمجتمعي، الذي يظهر فيه تزايد مؤشرات العنصرية، ومن حيث عناد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب وخطابه وسلوكه المعادي للديمقراطية.
يضاف إلى ذلك، طول فترة فرز النتائج، وما ساد ذلك، من إعلان مسبق لترامب الفوز، وإصراره على وجود تزوير، وفساد قضائي في بعض الولايات، ورفضه التسليم بالهزيمة ومهاتفة الفائز للتهنئة بفوزه، والاعتراف بالهزيمة ومن ثم الانسحاب من المشهد.
هذه الانتخابات هي الأكثر مشاركة شعبية، والأكثر دعماً للرئيس المنتخب الذي حصل على نحو خمسة وسبعين مليون صوت، وأكثر من 270 صوتاً في المجمع الانتخابي، وهذه هي المرة الأولى التي يتم انتخاب امرأة هي كامالا هاريس، ذات الأصول الإفريقية في موقع نائب الرئيس.
مارس ترامب سلوكاً هو الأقرب إلى حلبة المصارعة، حيث لا يقر المهزوم بهزيمته، طالما أن لديه فرصة أخرى، والغريب أن يعلن فوزه بفارق كبير، بالتزامن مع النتائج التي أظهرت فوز بايدن بفارق كبير.
يقول بايدن إنه انتصر على الحرب، وإنه سيستعيد الديمقراطية، ويعيد الاحترام لأميركا فماذا يعني ذلك؟
لا نعتقد أن بايدن يقصد أنه انتصر على منهج الحروب الخارجية التي قد يتسم بها عهد ترامب، وإنما على الأرجح نهج ترامب في إدارة الشأن الداخلي، عبر خطاب الكراهية والانقسام والتحريض على العنصرية والتشجيع على اقتناء الأسلحة.
وحين يتحدث عن استعادة الديمقراطية، فلأنها مهددة بسبب سلوك ترامب، الذي يشكك في كل العمليات والإجراءات الانتخابية منذ وقت مبكر، ويواصل هذا النهج، حين يقرر الاحتكام للقضاء الفيدرالي، رغم اتضاح هزيمته على نحو لم تنكره كل وسائل الإعلام الكبرى الأميركية.
أما حين يتحدث بايدن عن استرجاع الاحترام للولايات المتحدة، فإن ذلك مرتبط تمام الارتباط بالمكانة التي وصلت إليها من العزلة الدولية، وشكوى الحلفاء، بسبب السياسة الأنانية التي اتبعها ترامب وأدت إلى فقدان البلاد الاحترام من قبل شعوب الأرض.
بغياب ترامب عن المشهد السياسي وموقع الرئاسة، فإن على زملائه من الزعماء الشعبويين في عديد دول العالم أن يتحسسوا رؤوسهم بمن فيهم بنيامين نتنياهو، ذلك أن نتائج الانتخابات أحدثت «انقلاباً» على نهج سار عليه الكثيرون، حين تعود الولايات المتحدة إلى سياستها التقليدية.
الحرب الداخلية في الولايات المتحدة، من غير المتوقع أن تنتهي مع انتهاء الأوضاع لصالح الديمقراطيين، ولعل إشارة بايدن إلى أنه سيكون رئيساً لكل الأميركيين، تنطوي على محاولة لتهدئة نفوس متوترة، ومضطربة، ومستعدة لإشعال الفوضى.
من الواضح أن معظم دول وشعوب الأرض قد تنفست الصعداء مع ظهور النتائج لصالح جو بايدن، فلقد شن ترامب حرباً ضروساً على كل العالم ومؤسساته وقيمه، ومعادلاته المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خطاب الحملة الانتخابية لبايدن كان واضحاً بأنه سيحاول تصحيح ما ذهبت إليه سياسة سلفه ترامب.
يقول بايدن إنه سيعود وينضم إلى اتفاقية المناخ، واستعادة العلاقة مع الحلفاء التاريخيين، وسيبدي اهتماماً متخصصاً بمواجهة جائحة «كورونا»، ويحفظ نظام الرعاية الصحية الذي كان أقر في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وسيعيد عضوية الولايات المتحدة للمؤسسات الدولية التي انسحب منها ترامب، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية.
إزاء الشرق الأوسط، يتحدث بايدن عن العودة لمسار المفاوضات، مع إيران بشأن برنامجها النووي، وربما يراجع بعض العقوبات تمهيداً لإعادة إحياء الاتفاق الدولي بشأن البرنامج النووي.
إزاء ذلك، لا بد أن يتحسس نتنياهو وإدارة الاحتلال رؤوسهم ذلك أن ما يعد به بايدن، يشير إلى إزاحة الخطر الإيراني المزعوم باعتباره يشكل الأولوية، كما تريد إسرائيل وأراد نتنياهو وبعض العرب.
بهذه السياسة يفقد بعض الدول العربية ومعها إسرائيل مبررات تجاهل القضية الفلسطينية كأولوية لصالح أولوية الخطر الإيراني.
لا شك في أن ذلك سيؤدي إلى إحراج الدول الخليجية، التي هرولت نحو التطبيع بذريعة البحث عن تحالفات مع إسرائيل لدرء الخطر الإيراني، فضلاً عن أنها لن تحصل على ما اعتقدت بإمكانية الحصول عليه من طائرات (اف 35)، ذلك أن بايدن يؤيد التطبيع لكنه يرفض تزويد أي دولة عربية بمثل هذا السلاح.
لا تزال الأمور في بدايات الطريق، حيث لا يمكن تقييم العلاقات والأحداث المقبلة على الإقليم استناداً إلى خطابات التهنئة بالفوز للرئيس الجديد، والأرجح أن أكثر من زعيم عربي، سيكون عليه أن يعيد حساباته.
والآن ماذا عن مرحلة بايدن، والقضية الفلسطينية، ومسألة المفاوضات والمشاريع السلمية؟ لا بد قبل كل شيء من الاعتراف بأن أميركا هي ذاتها التي تتبنى المشروع الاستعماري الصهيوني، وبأن الاختلاف بين إدارة ترامب وإدارة بايدن، هو حول الخيارات الأفضل لضمان أمن وتفوق إسرائيل وإطالة عمرها.
على هذا الأساس يرى بايدن أن حل الدولتين، هو أفضل لإسرائيل، ذلك أن الحلول التي تبناها ترامب وسعى لفرضها، من شأنها أن تقصر عمر إسرائيل حين تذهب إلى الصراع، المفتوح.
بايدن اعترض على صفقة القرن، ورحب بعمليات التطبيع لكنه من غير المرجح أن يسحب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو يسحب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، لكنه سيعطي الفرصة لاستعادة المفاوضات، عبر استعادة العلاقة والدعم للسلطة وإعادة فتح مكتب المنظمة، وضخ الأموال لـ»الأونروا»، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس.
هي فرصة لوقف التدهور حسب سياسة ترامب، وفرصة لالتقاط الأنفاس من قبل الفلسطينيين، ولكنها ليست فرصة لاستعادة الأمل بسلام على أساس رؤية الدولتين لأن بايدن يفتقر للإرادة الكافية للضغط على إسرائيل.
[email protected]
أضف تعليق