الحمدُ للهِ َربِّ العالَمين, والصلاةُ والسلامُ على صاحبِ الخُلقِ الرّفيعِ, وعلى آلهِ الطّيبينَ الطّاهرينَ وبعدُ:
فمن المعلومِ بالضّرورةِ أنّ المُسلمَ الحقّ خاضعٌ للشّرعِ الحنيفِ, يمتثلُ بأوامرهِ وينتهي بنواهيهِ, وينضبطُ
بضوابتهِ التشريعيةِ والأخلاقيةِ, وينبغي على المسلمِ الملتزمِ بدينهِ أن يتجرّدَ من الأهواءِ والشّهواتِ, كالتّعصّبِ
والغضبِ والعَجلةِ والطّيشِ, وأن يضبُطَ انفعالاتهِ وعواطفهِ في تعاملاتهِ اليوميةِ مع محيطهِ ما استطاعَ إلى ذلكَ سبيلاً.
ثم إنّ الشّرعَ الحنيفَ قد كفلَ للناسِ حقوقهُم وذِممَهم وأعراضَهُم, وإنّ مقاصدَ الشّريعةِ العُليا هي: حفظُ الدّينِ وحفظُ النفسِ
وحفظُ العقلِ وحفظً النسلِ وحفظُ المالِ, وتندرجُ تحتها فروعٌ كثيرةٌ في مسائلِ الجُزئيات كالتعامُلاتِ والعِباداتِ وغيرها منَ
الأمورِ الحياتية
ولتأصيلِ المسألةِ من ناحيةٍ شرعيةٍ, نستعرضُ بعض الأدلّةِ العامّةِ التي سيُبنى عليها الحُكمُ الشّرعيّ :
1. تكريمُ ربّ العبادِ للنّاسِ جميعاً وتفضيلهم عن غيرهم من المخلوقاتِ عموماً:
قال جلّ وعلا: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا
(الإسراء 70). قال جلّ وعلا: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( التين 4).
2. الأمرُ بالإحسانِ للنّاسِ بالقولِ:
قال جلّ وعلا: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (البقرة 83), وقالَ جلّ في عُلاه: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( الإسراء 53 ), وقالَ جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (الأحزاب 70).
3. الضابط الأخلاقي:
روى أحمدٌ في مُسندهِ، من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنّ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسَلمَ قالَ: لَيسَ المُؤمنُ بالطّعانِ ولا اللّعانِ
ولا الفاحِشِ ولا البَذيء. وعن جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ أن النّبيَ صلّى اللهُ عليهِ وَسلّمَ قالَ: إنّ منْ أحبّكم إليّ وأقربكُم مني مَجلساً
يومَ القيامةِ أحاسنكُم أخلاقاً، وإنّ من أبغضكُم إلي وأبعدكُم مني يومَ القيامةِ الثّرثارونَ والمتشدّقونَ والمُتفيهقونَ .(رواه
الترمذي وصححه الألباني). وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: إنّ الرّجُلَ ليُدركُ بحُسنِ خُلقهِ درجاتِ قائمِ الليلِ صائمِ النّهارِ
(صحيح على شرط الشيخين) .
4. الاقتداءُ بأفعالِ النّبيِ وأقوالهِ مع المُسلمِ وغيرِ المُسلمِ :
في مُسندِ الإمامِ أحمدَ عن عائشةَ قالت: أتى النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ ناسٌ من اليهودِ فقالوا: السّامُ عليكَ يا أبا القاسمِ فقالَ:
وعليكُمْ ,قالت عائشةُ :فقلتُ: وعليكمُ السّامُ والذامُ, فقالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: يا عائشةُ لا تكوني فاحشةً, قالت:
فقلتُ: يا رسولَ اللهِ: أما سَمعتَ ما قالوا؟ السّامُ عليكَ, قالَ: أليسَ قد ردَدتُ عليهمُ الذي قالوا قُلتُ وعليكُم؟, وفي روايةِ
البُخاري أنهُ قالَ: مَهلاً يا عائشة عليكِ بالرّفقِ, وإِيّاكِ والعُنفَ أَو الفُحشَ، قالت: أَولم تَسمع ما قالوا؟ قَال: أَولم تسمَعي ما قلتُ؟ رَدَدتُ عليهِم، فيُستجابُ لي فيهِم، ولا يُستجابُ لهُم فيّ .. (والسّامُ بمعنى الموتُ والهلاكُ ).
وعندَ مُسلمٍ من حديثِ عَمرو بن العاصِ أنّ النبيَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ قالَ: فمَنْ أحَبّ أن يُزَحزَحَ عنِ النّارِ ويَدخُل الجنّة،
فلتأتهِ منيّتهُ وهوَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، ولْيأتِ إلى الناسِ الّذي يُحبُّ أن يُؤتى إليهِ.
وعندَ أبي داوودَ : أنّ أبا جُرَيٍّ الهُجَيْميّ قالَ: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ: إعهَدْ لي. أيّ: أوصِني وانصَحني. قالَ: لا تَسُبَنّ أَحداً، قالَ:
فما سَببتُ بعده حُرّاً، وَلا عَبدا، وَلا بَعيراً، ولا شاةً.
5. بطلانُ الإستشهادِ بتشبيهِ اللهِ لبَعضِ البَشَرِ بالحَميرِ والكِلابِ كقَولهِ تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث (الأعراف 176 ).
فالتشبيهُ هُنا يُحملُ على صفةٍ منْ صِفاتِ الحَيواناتِ لا على ذَواتها, وقدْ أورَدَ بعضُ أهلِ العِلمِ أقوالاً في هذا الجانبِ, كروايةِ
ابنِ أبي شيبةَ حيثُ كان النّاسُ يقولونَ: إذا قالَ الرّجُلُ للرّجُلِ: يا حمارُ, يا كلبُ, يا خنزيرُ... قالَ اللهُ يومَ القيامةِ: إتُراني خلقتُ
كلباً أو حماراً أو خنزيراً؟ .. وهذا ما ذهبَ أليهِ الأمامُ مالكٌ والنوويُ وغيرُهُما .
ثمّ إنّ نَعتَ المُعيّنِ بأسماءِ الحيواناتِ يُعتبرُ كَذِباً لأنّ الأولَ بَشَرٌ والآخرَ حيوانٌ .
وبِناءاً على ما تقَدمَ:
إنّ تَشبيهَ الناسِ عُموماَ بالحيواناتِ يُعتبرُ فعلاً مُنافياً لمقاصدِ الدّينِ الحنيفِ ومُجافياً للأخلاقِ الحَميدةِ التي حثّنا عَليها ربُّنا تَباركَ وتعالى ونَبيّهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ الذي جاءَ بقُرآنهِ وسُنتهِ مُتمماً لمكارمِ الأخلاقِ, وحرامٌ شَرعاً لما تَقدّمَ منِ الأدلّةِ.
فمَهما بَلغت مُقارعَةُ الخُصومِ ومُناجَزَةُ اللئامِ فلا يَنبَغي أنْ نَهوي ألى َمزالقِ الأفعالِ وسَفاسِفِ الكلامِ, فالمُؤمنُ الحقّ هو من يترفّعُ عنِ الدّنايا ويّتعفّفُ عنِ الرّزايا ويُراقبُ رَبّهُ في سِرّهِ وعلانيتهِ ويخافُ يَوماً لا تملكُ نَفسٌ لنَفسٍ شيئاً والأمرُ يَومئذِ للهِ, وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
كتبها محمد سليمان 15 ربيع الأول 1442ه الموافق: 1.11.2020 م
[email protected]
أضف تعليق