1- (توطئة على هامش رسائل هيلاري كلينتون)
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، سُئل زبيجنييف بجيجينسكي اذا كان نادما على التحالف السري مع الاسلاميين في أفغانستان؟، فأجاب: أندم على ماذا؟ لقد كان هذا التحالف فكرة ممتازة، فأيهما أهم في تاريخ العالم؟ مجيء طالبان أم إنهيار الامبراطورية السوفييتية؟؟ مجيء بعض المسلمين المهتاجين أم تحرير أوروبا الوسطى وانتهاء الحرب الباردة؟؟ فرط الصراحة في اجابة بجيجينسكي أخفت في الواقع خيانة امريكا لتحالفها على مدار عقود طويلة مع الاخوان.
لا شك ان انهيار الاتحاد السوفييتي (1990) عزز غرور الامريكان والصهيونية العالمية، بامكانية الرقص المنفرد (سولو) واستبعاد (التانغو) مع الاخوان، لا سيما وان حكومات البلدان الاسلامية الوازنة مثل السعودية وتركيا وباكستان، وكذلك دول الخليج وهي التي مولت وسلحت آلاف الجهاديين في أفغانستان، استطاعت من جهة احتواء الاسلاميين، ومن جهة أخرى باتت أكثر تبعية لأمريكا. وان كان غرور أمريكا قد دفعها لتوقع على الاخوان طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى اثر انهيار الاتحاد السوفييتي، فان أحداث الحادي عشر من سبتمبر وثم هزيمة الكيان الصهيوني في عدوان 2006 على لبنان، دفع بالامريكان الى تجديد التانغو الذي بدأته مع حسن البنا.
لحظ الاخوان صعود أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما وازنوا بين علاقتهم بالامريكان وعلاقتهم التاريخية مع الانجليز، ففي عام 1948 التقى الدبلوماسي الامريكي هيرمان ايلتس مع حسن البنا، بمدينة جدة في منزل الشيخ محمد سرور الصبحان، وكيل وزارة المالية السعودية. ما كان للصبحان استضافة مثل هذا الاجتماع دون موافقة سعودية عليا، لا سيما بخلفية هذا اللقاء لقاء الملك عبد العزيز آل سعود بالرئيس فرانكلين روزفلت على متن المدمرة الامريكية "كوينسي" بالبحر الأحمر مع نهايات الحرب العالمية الثانية (يذكر أن الصبحان كان عبدا من أصول سودانية أعتقه صاحبه لنباهته وترقى بمناصب الدولة بجدارة). وفي عام 1953 استقبل الرئيس أيزنهاور في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، الدكتور سعيد رمضان عضو مكتب الارشاد وزوج ابنة حسن البنا، بناء على توصيات وتقارير جيفرسون كافري سفير امريكا في القاهرة، والذي نصح بالتقارب مع الاخوان، وأشار في مذكرة الى وزارة الخارجية قائلا "الاخوان المسلمين في مصر وحلفاءهم في الجماعة الاسلامية في باكستان، يمكن أن يكونوا حلفاء جيدين ضد الشيوعية وضد الحركات القومية العربية ذات المنحى اليساري مثل حزب البعث".
اغتيال البنا في 1949/2/12 لم يحد من مرونة الاخوان وقدرتهم على خداع الذات وخلق التوازنات، ولم يجد حسن الهضيبي (المرشد العام المنتخب يوم 1951/10/19) أي حرج بتسجيل اسمه بعد أقل من شهر على اختياره في سجل تشريفات القصر الملكي يوم 1951/11/14، اذ لخص مقابلته مع الملك بقول مقتضب: "مقابلة كريمة لملك كريم"، وهو نفس الهضيبي الذي مال على جمال عبد الناصر عام 1953 قائلا: "يا جمال، عندما تشعر بضيق بضيق من الاخوان أبلغني، وأنا أسلمك مفتاح المركز العام ونقفلها حتى لا تقع فتنة".
تعايش الاخوان مع خداع الذات بأن العداء للشيوعية هو ذاته عداء للصهيونية، لكن هذه الفكرة دخلت في أزمة حادة اثر انهيار الاتحاد السوفييتي، ففي حين ذهب بن لادن والفصائل الراديكالية الى اعتبار امريكا هي العدو ورأس الكفر، ماطل الاخوان بتضليل الذات في مسألة العداء للصهيونية، ومن واشنطن أعلن حسن الترابي والذي يعتبر الرجل الثالث بعد سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، في مقابلة مع صحيفة "ميدل ايست بوليسي" أيار 1992، أعلن نظرية التفاهم البناء مع الغرب، بما يشمل هدنة طويلة الأمد حول اسرائيل. وليس صدفة ان يتردد مصطلح الهدنة طويلة الأمد على لسان حماس بين الحين والآخر.
في اعقاب العدوان الصهيوني عام 2006 على لبنان وفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، بدأت امريكا تعيد ترتيب أوراقها بالمنطقة، ففي حزيران 2007 اعتمدت كونداليزا رايس سياسة جديدة تسمح لدبلوماسييها الاتصال الرسمي بالاخوان المسلمين في مصر وسوريا والعراق وبقية الدول العربية، وهذا يعني أن امريكا انتقلت من استراتيجية الحرب المباشرة الى البحث عن شركاء اسلاميين، وبطبيعة الحال في الخلفية الذهنية هناك النموذج التركي. وفي تموز من نفس العام انعقد في واشنطن "منتدى المعتدلين الاسلاميين" على مدى اسبوع، أعدت له ونشرت أبحاثه صحيفة الواشنطن تايمز، حضر المنتدى عدد من رموز الاسلام السياسي بالعالم، منهم طارق رمضان ( وهو نجل سعيد رمضان المذكور سابقا، وحفيد حسن البنا)، وراشد الغنوشي زعيم النهضة التونسية، ومزمل صديقي زعيم الاخوان المسلمين في باكستان، وآخرون، والرسالة الأساسية التي خرج بها المنتدى كما نشرتها الواشنطن تايمز، هي " ان الجهاد بالاسلام لا يشرع الا لأغراض دفاعية وهي مقاومة عدوان خارجي أو طغيان داخلي". (ولم يطل الوقت حتى أخذت مسألة الطغيان الداخلي منحا تصادميا بدموية متفاوتة بين قطر وآخر). وفي آب 2007 كتب البروفسور مارك لينش المحلل السابق في وزارة الخارجية الامريكية، مقالا بمجلة فورين بوليسي بعنوان " مذكرة الى المرشد العام – كيف تتحدث الى أمريكا؟" أراد من خلال هذا المقال توجيه النقد للمرشد العام مهدي عاكف، ومن جهة أخرى أشار الى أن أمريكا والاخوان لديهما من القواسم المشتركة أكثر مما يعتقدان.
2- (التقاط الاشارات)
لم تكن هذه الاشارات سوى مقدمات للرسالة الأبلغ في خطاب باراك اوباما بجامعة القاهرة، ومحاولة أمريكا التوجه من "قلب" العالم الاسلامي الى "عقل" العالم الاسلامي، وكانت مستشارته للشؤون الاسلامية داليا مجاهد (المسلمة المحجبة والمولودة بحي السيدة زينب بالقاهرة) أفضل من نقل فكرة تعايش الاسلام مع الحداثة وأبرع من أرسل اشارات القطيعة مع حقبة بوش الابن المضطربة للعالم الاسلامي، وبنفس الوقت برعت مجاهد بالاجابة على سؤال الامريكيين لأنفسهم "لماذا يكرهنا المسلمون؟"، وأشارت بشكل لبق الى جذور التعصب والاسلاموفوبيا في المجتمع الأمريكي، وكنبذة عن هذا التعصب أسوق مثالا مختصرا مما كتبه مايكل اورن (سفير اسرائيلي سابق في واشنطن ومحاضر في جامعة هارفارد): "مع ان الولايات المتحدة كانت تفخر في بداياتها بالتسامح الديني، فان هذا التسامح نادرا ما كان يمتد الى الاسلام".
التقط الاخوان الاشارات بشكل سلس، وهناك حتى من يعتقد ان مقال البروفسور لينش قد سرّع باستبعاد المرشد عاكف، فمع بداية الثورة المصرية على حكم مبارك استنكف الاخوان، ولا أحد يعلم ماذا دار في مكتب الارشاد يوم 25 و 26 و 27 كانون ثاني 2011 لكنهم ظهروا يوم 28، وفي يوم 31 وحين بات واضحا للامريكان استحالة اسقاط مبارك بالقوة، خرج المتحدث باسم البيت الأبيض بتصريح صادم لكثير من قوى الثورة في مصر، ففي تعقيبه على أحداث مصر قال: "شروط واشنطن للاتصال بالاخوان المسلمين في مصر، هي الحصول على ضمانات باحترامهم للقانون والقبول بالتحول الى جزء من العملية الديمقراطية. أما لماذا خص البيت الأبيض الاخوان دون غيرهم من قوى الثورة، فقد جاء الجواب تباعا في سلسلة لقاءات آن بيترسون (سفيرة الولايات المتحدة بالقاهرة) وجون كيري مع قيادات الاخوان، لا سيما مع محمد مرسي وسعد الكتاتني وعصام العريان، والتي أشارت بوضوح الى "التزام حزب الحرية والعدالة بالاتفاقات الدولية"، وبطبيعة الحال لا يدور الحديث عن اتفاقيات توريد السكر أو الشوكولاتة، وانما عن "كامب ديفيد واتفاقية السلام مع اسرائيل" وهذا هو بيت القصيد، وليس خارج هذا السياق كان تصريح المرحوم عصام العريان بعد استقالة مبارك، اذ قال: "على الاخوان أن لا يتعاملوا مع معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية على أساس الحرام والحلال، وإنما الواجب هو التعامل معها بمعايير المصلحة السياسية".
بالحقيقة كان حمد بن جاسم رئيس حكومة ووزير خارجية قطر في حينه، من صاغ مقولة "التسول العربي" بمعنى ان العرب لا يملكون غير تسول الحلول من أمريكا واسرائيل، والسؤال الأهم الذي يمكن طرحه على ضوء نشر رسائل هيلاري كلينتون في مسألة تمكين الاخوان، ماذا يتسول الاسلاميون؟ هل يتسولون حلا للقضية الفلسطينية؟ أم يتسولون السلطة في بلدانهم؟ أم هي الخلافة العظمى؟
[email protected]
أضف تعليق