كنت عائدًا من رحلتي، منغمرًا بالبِشر، وصلت إلى (عاصمتنا) دالية الكرمل الحبيبة عن طريق "ام الزينات" وقررت ان اسلك الطريق الالتفافي للوصول إلى قريتي عسفيا وعند وصولي إلى منتصف المنحدر تبدلت مشاعري كليًا.. اسودت الدنيا في ناظري، وتحول سروري إلى حنق.. ازداد خفقان قلبي، اردت ان احافظ على صلابتي إلا ان دمعة وثبت على خدي، وكانت كواسر السرعة (المطبات) ترفع بالسيارة قليلًا وتنزلها فاسمع ضربًا في جمجمتي، ورحت أسأل نفسي: أوصل بنا الوضع إلى هذا الحد؟! ما الذي جرى لنا.. هل نحن لم نعد نحن.. رحماك يا ألهي.. أوقف هذا الانهيار الذي يأخذنا إلى الحضيض.. أهلنا لا يفقهون خطورة تصرفاتهم، كان في منتصف الانحدار هناك شارع فرعي يحمل اسم " مناحم بيغن" وبيغن هذا الديماغوجي كان يتمتع بإتقانه للخطابة وقدرة بالغة على التلاعب بمشاعر مستمعيه وكان قد زار طيرة الكرمل وخطب في حشد شعبي كان ينتظره قال بلهجة حزينة وهو يشير بيده: "انظروا الى أعلى، أن الدروز يسكنون في اعالي الجبل، بينما نسكن نحن اليهود في الأسفل": ثم واصل حديثه بلهجة باكية: "لا يمكن لهذا أن يستمر، الاغيار فوق وشعب الله المختار تحت" متناسيًا بان هذه الأرض ليست ارضه، وانه كالعقرب المخلوق الوحيد الذي لا يبني لنفسه بيتًا وإنما يأتي غازيًا، يطرد صاحب البيت ويستوطنه وهو يطمح بتهجير الجميع من بيوتهم.
ونحن يا سبحان الله نطلق على شوارعنا اسماء من يتمنى لنا الشر، ذلك اعتقادًا منا بان ذلك سيسهل امورنا، وفي الحقيقة، التجارب تثبت العكس تماما، تثبت بان التملق يقودنا إلى ان يستهتروا بنا أكثر، والمؤسف ان الكثير ينظرون إليهم وكأنهم مثلنا الأعلى، ويا للعجب، نطلق على أولادنا أسماءهم ايضًا؟! نتنكر لتراثنا العريق ظنًا منا بان ذلك رجعية؟! تنكرنا لدورنا البطولي القومي في التاريخ العربي بعد ان نجح الصهيونية في غسل دماغ الكثير من أهلنا، ولقد أتقن الكثير منا لغتهم أكثر مما أتقن لغته دون ان يدركوا المخاطر الكارثية لذلك، إن من يتقن لغة الاخر أكثر مما يتقن لغة الام ينصهر رويداً رويدا في الاخر لان نفسية الإنسان تُصقل من خلال مناخ اللغة التي يتقنها.. من خلال العبارات والامثال الشعبية والعادات وتجارب ومن خلال الثقافة المكتسبة في المجتمع الذي يعيش ويتفاعل مع القيم السائدة فيه.
نفخت زفيري بعيدا افففف، وقلت لنفسي لماذا اتفاعل إلى هذا الحد.. لماذا اوجع قلبي.. لماذا لا تفاعل مع الحدث ببساطة.. ما هو الزوم للوعي؟ كان يمكن ان نبقى بسطاء لان البساطة تكفل سعادة الفرد، والوعي يزيد الهم وربما يقصر من العمر.. ونيالك يا حمار.. نيالك يا حمار، تذكرت بيت من الشعر يقول: "وعش في الحياة عيش هائم فالسعد في طالع البهائم"
واخذني أبو طيب إلى قوله: " ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ"
وكنا قد حدثناكم عن أبا حوشي الذي كانت مهمته ضمن مخططات الحركة الصهيونية ان يسايرنا ويضحك علينا كي يهجرنا وقد لبس ثيابا عربية وأطلق على نفسه اسم "أبو خالد" وسافر إلى جبل العرب برفقة بعض المتعاونين الذين ربما لم يعلموا بنواياه الحقيقية؟ وهناك اجتمعوا مع المغفور له عطوفة سلطان باشا الأطرش، كان امل أبا حوشي المتخفي ان يشير للوفد المرافق له باقول، ما دام اهلكم في فلسطين قد خرجوا من بلادكم ففعلوا ما فعلوا، ولكن القائد الفذ الذي طرد الاتراك والفرنسيين من بلاده شاهد ببصيرته المتقدة الحقيقة، فقال للوفد" "اياكم ان تخرجوا وأفضل لكم ان تموتوا في بلادكم من ان تهجروها" وهكذا عاد ابا حوشي (أبو خالد) بخفي حنين.
ترى هل نحن نعاني من المازخستية، نعشق الضرب وجلادنا، ونطلق على شارع الرئيس في عسفيا اسم شارع "أبا حوشي" وعلى شارع في دالية الكرمل اسم "مناحم بيغن"؟ رحماك يا إلهي.. أرشد عبادك الطيبين.. دعهم يشاهدوا بأبصارهم وبصائرهم ابعاد خطواتهم ليستدركوا قبل فوات الأوان.
[email protected]
أضف تعليق