لم يعد مفاجئاً ولا غريباً، ان تقفز بعض الدول العربية، إلى منصة التطبيع مع إسرائيل، فالأمر عملياً قد تم منذ بعض الوقت. ليس عُمان والسودان بحاجة إلى الاستعجال في الإعلان عن خضوعهما للإرادة الأميركية الإسرائيلية. فلقد استقبل سلطان الأولى نتنياهو، وزفت الفرقة الموسيقية نشيد البلدين تحت علميهما. والحال لا يختلف كثيراً بالنسبة للسودان التي قابل رئيس مجلس السيادة فيها عبد الفتاح البرهان، نتنياهو في أوغندا، ثم أجرى مباحثات مع وفد أميركي لم تنجح بعد في التوصل إلى اتفاق نهائي.
مخطئ من يعتقد أن النظامين العُماني والسوداني ينتظران نتائج الانتخابات الأميركية، التي قد تؤدي إلى الإطاحة بترامب، الذي جنّد إدارته وإمكانيات بلاده لفرض «صفقة القرن»، وفرض الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة.
هؤلاء خلعوا رداء الحياء، وقد ارتبط موضوع التوصل إلى اتفاق كامل بشأن التطبيع مع إسرائيل، بالثمن الذي يمكن أن يحصل عليه هؤلاء.
السودان، برئيس مجلس سيادته المهدورة، ورئيس حكومته عبد الله حمدوك يتحدثون علناً، بما يشبه التوسُّل، بحاجة السودان لإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، ولكن من دون تطبيع وكأنّ ثمة فرقاً بين العلاقات الكاملة والتطبيع مقابل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، والحصول على بعض مليارات الدولارات، وبعض التسهيلات الاقتراضية.
وزير الخارجية الأميركي بومبيو كان قد طالب الكونغرس برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب قبل منتصف تشرين الأول الجاري، غير أن الكونغرس يناقش مشروع قانون يرهن بيع السلاح الأميركي للعرب بالتنسيق مع إسرائيل.
المؤشر واضح، فالفيتو بشأن رغبة بعض الدول العربية المطبعة تحسين قدراتها العسكرية، بيد إسرائيل التي لا تتوقف عن الإعلان عن معارضتها بيع طائرات (اف 35) للإمارات، فإن وقع ذلك، فليس قبل سنوات، وليس مع كل التجهيزات التي تتمتع بها الطائرة. فوق هذا فإن إسرائيل التي تحرص على تفوقها العسكري والأمني، على كل من حولها، ستكون لديها قائمة طلبات عسكرية طويلة بذريعة ضمان التفوق.
لكأن إسرائيل تتوقع في يوم ما أن يكون السلاح بيد الأنظمة العربية موجهاً إليها، بعد أن حيّدت الجيوش العربية في الصراع، منذ عقود. الاتجاه العام لعملية التطبيع واضح، ولم يعد أمره محكوما للتحفظ، لكن ثمة فرقا بين دولة وأخرى فيما يتصل بالحسابات الداخلية والتداعيات التي يمكن أن تقع في لاحق الأشهر والسنوات.
إسرائيل تريد أن تحصل على قاعدة عسكرية وأمنية واستثمارية في السودان لكي يكتمل الطوق حول مصر. هي بدأت من اثيوبيا حيث منابع نهر النيل، ثم بالنجاح في تقسيم السودان، وتحقيق تعاون وثيق وشامل مع حكومة جوبا، والآن تتوفر لديها فرصة، لتحقيق تعاون مشابه مع شمال السودان، ونظامه الانتقالي.
هنا يقفز أمام الجميع موضوع سد النهضة، وحصص الدول المعنية في المياه، والأصل التحكم في مصر من خلال المياه. هذه سياسة عدوانية هجومية وإن كان مظهرها العام لا يوحي بذلك. إسرائيل بدعم أميركي كامل تسعى لحصار مصر، باستخدام المياه، وباستخدام الإرهاب من غربها ومن جنوبها فضلاً عن سيناء.
هكذا لا يكون الهدف فقط تصفية القضية الفلسطينية، وتعزيز وتوسيع الدور الإقليمي لإسرائيل كقاعدة استعمارية وإنما، أيضاً، توفير وسائل الضغط الشديد على الدولة المركزية الأهم في المنطقة وهي مصر بالنظر لمسؤوليتها التاريخية إزاء الأمن القومي العربي. على خط إظهار الالتزام بقيم السلام.
يبرم السودان اتفاقاً مع ثلاث منظمات مسلحة، يتقاسم معها الثروة، والنفوذ، ليحقق هدوءاً نسبياً طالما ان هناك من لم يلتحق بالاتفاق.
ومسألة أن القوى التي لم تلتحق بالاتفاق، من دون أسباب مهمة، تلقي الشبهة على إمكانية أن ثمة أطرافا خارجية ستحتفظ بيدها، بورقة الصراع المسلح حتى لا يعرف السودان الاستقرار، أو أن يرضخ بشكل كامل ونهائي لكل الشروط الأميركية الإسرائيلية.
السودان مختلف عمن سبقوه إلى التطبيع، وربما كانت محاولة الفصل بين إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، والتطبيع، هو الخشية من ردود الفعل الشعبية، وربما عدم الثقة بقدرات النظام على حماية التواجد الإسرائيلي المدني في السودان.
السودان مختلف، أيضاً، لأنه للتوّ، خرج من انتفاضة شعبية عارمة، نتج عنها ما يعرف بالمجلس الانتقالي والحكومة الانتقالية، وبالتالي فإن ثمة احتمال أن تعود الجماهيري إلى ميادين الاحتجاج، في حال أقدم النظام على التطبيع الكامل وتسليم البلاد للحلف الأميركي الإسرائيلي.
حتى الآن لم تظهر على السطح في السودان معارضة قوية، لكن هذا لا يعني أن المعارضة والمعارضة الفاعلة غير موجودة، خاصة وأن المطلوب من السودان، أكثر وأخطر مما يجري الإعلان عنه.
الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني بسام الصالحي كان قد أشار في تصريح بأن السودان يتعرض لضغط أميركي، للقبول بتوطين لاجئين فلسطينيين وهو الإسهام الأخطر للسودان في حال قبوله، لفرض «صفقة القرن»، بكل أبعادها القريبة والبعيدة.
ثمة انقسام أو خلاف داخلي سوداني بشأن كل هذا الملف فـ «البعث» و»الشيوعي»، و»حزب الأمة» الأساس، وأحزاب قومية أخرى ضمن قوى التغيير والحرية، ترفض سياسة المجلس العسكري والحكومة إزاء العلاقة مع إسرائيل.
ثمة أحزاب صغيرة وهامشية تتحدث عن التطبيع كفرصة تاريخية مثل «حزب الأمة ـ الإصلاح والتجديد»، و»حركة تحرير السودان»، «الثورة الثانية»، و»جبهة الشرق»، لكن بعضها يملك السلاح، وله باع في الحرب الأهلية.
هذا يعني أن إقدام السودان الرسمي على توقيع اتفاق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل من شأنه أن يفتح المجال لصراع داخلي مدمّر، وقد يصل إلى مستوى الحرب الأهلية كما يتوقع أحد الكتّاب الإسرائيليين.
هكذا يمكن فهم تصريح حمدوك، بأن التطبيع مع إسرائيل معقّد ويحتاج إلى نقاش، وأنه لا ينبغي الربط بين رفع السودان من قائمة الإرهاب بالتطبيع.
في كل الحالات فإن السودان ليس في مأمن ولا يمكنه الحصول على المال والاستقرار من دون ثمن كبير، فإن قدم ما يلزم بتقديمه فهو مقبل على مصيبة، وإن تحفّظ أو تأخّر، فإن إسرائيل لن تتوقف عن العبث بالأوضاع الداخلية ولديها أدواتها، ومن ينتظرون منها الإشارة لتفجير الأوضاع، فما هو مطلوب من السودان أكثر وأخطر بكثير مما يتم الإعلان عنه.
[email protected]
أضف تعليق