منذ العام 1960، تجري عادة مناظرات بين مرشحي الحزبين الأميركيين، الجمهوري والديمقراطي المتنافسين على الدخول إلى البيت الأبيض الرئاسي في واشنطن، وكانت تلك المناظرات تشكل فرصة أخيرة للمرشح المتخلف عن منافسه في استطلاعات الرأي، للتأثير على الأصوات المترددة، التي لم تحسم بعد خيارها الانتخابي قبل أسابيع قليلة من فتح صناديق الاقتراع، وبالنظر إلى أن الرئيس الحالي دونالد ترامب، يتقدم إلى معركة انتخابية على عكس كثير من الرؤساء السابقين، من حيث هي معركة صعبة، يتخلف فيها عن منافسه حسب استطلاعات الرأي المتتابعة منذ أن حسم الحزب الديمقراطي خياره بترشيح جو بايدن نائب الرئيس السابق باراك أوباما، بدأها بما وصف بالحرب الكلامية التي مست الجوانب الشخصية لدى منافسه، إن كان ما يتعلق بابنه هانتر، أو بما يخص عمره، رغم أن الفارق في السن بين الرجلين ليس كبيراً، فإن ما ظهر عليه ترامب في المناظرة الأولى لم يبشره بخير، فقد ظهر كرئيس أحمق وعدائي، ينزع إلى التعبير عن مشاعر عنصرية.
في الحقيقة إن شخصية وسياسات ترامب الداخلية والخارجية قد ظهرت بوضوح خلال ولايته في البيت الأبيض، بدأها بسرعة حين بدأ بفعل كل ما من شأنه عكس إرث سلفه الذي اعتبر انتخابه مظهراً ديمقراطياً طوت أميركا من خلاله إرثها العنصري، كونه كان ملوناً، كما ظهر كرجل متبجح، كونه ثرياً، يكره الفقراء ويستخف بهم، وحتى بحياتهم حين اجتاح وباء «كورونا» بلاده، دون أن يسارع إلى اتخاذ إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي كونها تؤثر سلباً على الاقتصاد وعلى جيوب الأثرياء المملوءة بالنقود.
أولاً وقبل كل شيء، لم تختلف الموضوعات التي طرحت للحوار عن المألوف في اهتمام الناخب الأميركي، أي الشأن الداخلي، وتناولت المناظرة موضوعات: برنامج أوباما الصحي، كذلك الكيفية التي واجهت بها الولايات المتحدة وباء «كورونا»، ثم مواجهة العنصرية وإدارة السلم الأهلي، وسياسة الضرائب، وطريقة الاقتراع بالبريد.
أي أن ترامب وجد نفسه يدافع عن سياسة حمقاء اتبعها خلال ولايته في البيت الأبيض، لذا ظهر كرئيس ساخط يسعى لولاية ثانية متسلحاً بلغو الكلام والهجوم على شخص منافسه، ومعتمداً على ما تبقى من إرث بائد لدى بعض الأميركيين من أثرياء ويمينيين متزمتين، بما في ذلك بعض جماعات التطرف العنصري، ولهذا فقد أظهر التردد في إدانة المنادين بالتفوق الأبيض من أمثال جماعة «براود بويز».
وعلى عكس الرئيس المرشح للولاية الثانية ظهر المرشح الديمقراطي رابط الجأش في مواجهة رئيس متهكم سلاحه السخرية والمشاكسة، فظهر بايدن كرجل مخضرم هادئ وقوي، وربما كان يشعر بدعم حزبه الذي يخوض المعركة الرئاسية بكل قوة على عكس خصمه الجمهوري، الذي يبدو أقل اهتماماً بإعادة انتخاب مرشحه الرئيس ترامب، حيث كانت حملة بايدن تتابع معه المناظرة، وما أن طلب من خصمه التوقف عن مقاطعته حين كان يتحدث، حتى كانت الحملة الانتخابية تقوم فوراً بطباعة القمصان المكتوب عليها «هلا تخرس أيها الرجل».
لقد كان طريق ترامب للولاية الثانية محفوفاً بكل ما هو مثير، وكأن العالم بأسره، وليس الولايات المتحدة وحسب، كان يشاهد فيلماً سينمائياً عن آخر الرجال العنصريين، الذي يصل إلى منصب الرئيس، فيسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عقوداً طويلة من السنين، ففي غير مكان دفع بالتوتر لدرجة التهديد بشن الحروب الاقتصادية خاصة، لكنه فشل فيها كلها، فشل في كبح جماح كوريا الشمالية ودفع زعيمها للانكفاء، بل على العكس اضطر للإعراب عن إعجابه به بعد شهور قليلة، وفشل في دفع فنزويلا إلى الانقلاب على رئيسها الشرعي، كذلك في مواجهة الصين اقتصاديا، ومواجهة روسيا سياسياً، ولم يكن فيما يخص ملف الشرق الأوسط أكثر من دمية لعب بها رئيس الوزراء الإسرائيلي وهو في أسوأ حالاته يواجه تهم الفساد، فيستخدمه للضغط على بعض الدول العربية لتحقيق التطبيع الذي شقت طريقه إسرائيل منذ سنوات مضت.
في حقيقة الأمر لا يبدو ترامب كما وصفه خصمه وكما يصفه الكثير من الأكاديميين والإعلاميين وحتى الفنانين الأميركيين أكثر من مهرج، يثير وجوده في البيت الأبيض الاستغراب، بما يؤكد أن وصوله لمنصب الرئيس قد حقق مصلحة لخصوم أميركا الدوليين أكثر مما عزز مكانة أميركا في العالم، فضلاً عن تماسكها الداخلي.
وكما هي حال الجهلاء دائماً، حين نقول إن الجاهل عدو نفسه، فإن ترامب ومنذ أن وصل للبيت الأبيض قام بتوسيع دائرة خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج، لذا ظهر الحزب الديمقراطي كله موحداً وراء مرشحه ومخاصماً الرئيس اليميني المتزمت، وها هي أميركا تترنح في حرب التنافس الاقتصادي على زعامة العالم مقابل الصين التي تبدو أكثر تماسكاً وقوة وثقة، ولعل أسوأ صورة يظهر عليها الرئيس المرشح هي الصورة العنصرية التي ظهرت في كيفية معالجته لواقعة مصرع الرجل الأسود جورج فلويد على يد شرطي فدرالي، وفي كيفية مواجهة التظاهرات إثر ذلك، حيث أصر الرئيس على وصف خصمه بأنه يمثل تهديداً على القانون والنظام وعلى حق حمل السلاح!
دخل ترامب المناظرة بحمل ثقيل، فيه تهربه من الضرائب، ومعارضته للاقتراع البريدي، لدرجة التهديد بعدم تسليم السلطة في حال خسارته، لذا سمح لخصمه بوصفه على الملأ بالمهرج والكاذب، الأحمق والعنصري، وكانت النتيجة أن جمعت حملة بايدن خلال ساعة واحدة تلت المناظرة أعلى مبلغ تبرعات على الإنترنت على الإطلاق، كما تقدم بها بايدن بنسبة 48% مقابل 41% للرئيس المرشح، فيما أبدى معظم الأميركيين انزعاجهم من المناظرة العاصفة، التي أظهرت - ربما - الديمقراطية الأميركية نفسها كنظام وأميركا كدولة شائخة، مضى وانقضى عصرها الذهبي كدولة أولى تتقدم دول العالم قاطبة.
[email protected]
أضف تعليق