منذ انتخابه رئيساً لدولة فلسطين، يحرص الرئيس محمود عباس، على عدم تفويت فرصة مخاطبة العالم، عبر الأمم المتحدة، في اجتماع الجمعية العامة السنوي، الذي يعقد عادة في الثلث الأخير من شهر أيلول من كل عام، وكان ذلك أحد مؤشرات التقدم الملحوظ طوال السنوات الماضية للمكانة الفلسطينية على الصعيد الدولي، رغم التراجع الداخلي بسبب الانقسام، أو الإقليمي بسبب نقل مركز الصراع في الشرق الأوسط من حول أو بالاشتباك مع إسرائيل، إلى داخل الدول العربية، أو بينها وبين جيرانها من منافسي إسرائيل على النفوذ في الشرق الأوسط على حساب العرب بالتحديد.
هذا العام يعيد الرئيس التأكيد على الثوابت الفلسطينية، وعلى الحقوق الفلسطينية التي ما زالت منتهكة بسبب الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، وعدم تمكين المجتمع الدولي الشعب الفلسطيني من التحرر والاستقلال الوطني، ويأتي خطاب الرئيس الذي يخاطب به عادة المجتمع الدولي، بما يؤكد أن الفلسطينيين منحازون للشرعية الدولية، فيما إسرائيل وبدعم أميركي ما زالت تضرب عرض الحائط بتلك الشرعية الدولية.
ومع تراجع قوة وتأثير العنصر العربي من العامل الإقليمي، فإن الشعب الفلسطيني يجد تعويض هذا الأمر من خلال الدفع بعنصرين آخرين ليسدا النقص أو الضعف، أولهما بالطبع هو العنصر الداخلي، حيث دفعت اتفاقيتا التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين، الفرقاء الفلسطينيين للتعاضد والتوحد، رغم أن ملف الانقسام الداخلي بات معقداً بعد أن راكمت الغبار عليه ثلاثة عشر عاما مضت، وهكذا كان الرد الفوري قد تمثل بمؤتمر الأمناء العامين، الذي أكد وحدة الموقف الداخلي المتمثل برفض صفقة ترامب وخطة الضم، واتفاقيات التطبيع العربي.
وحتى لا يكون اجتماع الأمناء العامين مجرد تظاهرة لرفض الاستسلام، كان لا بد من توالي اللقاءات والترتيبات، التي تهدف لحشد الشارع لإطلاق الاحتجاجات ولإسناد الموقف الرسمي السياسي، وهذا قد بدأ فعله بتشكيل الهيئة القيادية الميدانية، رغم أن بواكير فعلها لم تظهر بعد في الشارع، كما هو مأمول ومنتظر، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن العدو قد حول وجهة عدوانه من الضم الذي كان سيحرق ميدان المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في كل مدن وقرى ومخيمات ونقاط الاحتكاك بين الفلسطينيين من جهة وحواجز الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين من جهة ثانية.
أما إنهاء الانقسام، فإن له مدخلاً فعلياً مباشراً، وآخر نظرياً، أما النظري أو الدعائي فهو إصلاح (م.ت.ف) بما يعيد مراجعة برنامجها السياسي، وكان المقصود إعلان المبادئ، وحيث إن هذا صار وراء الجميع، فإن مدخل إنهاء الانقسام يتمثل في توصل فتح وحماس إلى اتفاق شراكة لاقتسام السلطة، وليس لتبادل أو تكامل الأدوار، فحماس لا ترفض تسلم السلطة مثلاً، أو أنها تريد (م.ت.ف) مقابل أن تترك السلطة لفتح مثلاً، أي أنه ليس مطروحا المنظمة مقابل السلطة، بل كلاهما، أي المنظمة والسلطة مطروحتان لاتفاق التقاسم بين الحركتين.
في حقيقة الأمر، إن السلطة وفتح قد اقتربتا كثيراً من برنامج حماس السياسي ولم يقتصر ذلك على وقف التنسيق وحتى الاتصال مع إسرائيل، بما يعني تعليق أوسلو، أو إسقاطه فعلياً وعملياً، بل إن الأمر شمل الحلفاء الإقليميين، وقد كان معروفاً أن حلفاء حماس والجهاد، يتمثلون في تركيا وقطر بالدرجة الأولى وإيران بالدرجة الثانية، فيما حلفاء السلطة يتمثلون في الأردن ومصر والسعودية، بينما كانت الإمارات خارج دائرة التحالف مع الطرفين، ورغم حرص السلطة على عدم الإساءة للإمارات والبحرين، إلا أن موقف ما يسمى محور الاعتدال العربي المتمثل بمصر والأردن والسعودية تجاه مشروع القرار الفلسطيني الذي تم إجهاضه في الجامعة العربية، بل الترحيب المصري بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، أجبر السلطة وفتح، على التوجه إلى أحد طرفي مثلث القوة الإقليمي.
لعله أمر ذو دلالة كبيرة، أن ينعقد اللقاء بين فتح وحماس لإنهاء الانقسام في اسطنبول، بعد أن انعقد مؤتمر الأمناء العامين بالخارج في بيروت، وكانت مصر هي راعي المصالحة واللقاءات من أجل إنهاء الانقسام بين الحركتين، ويمكن تصور رد فعل الشارع الفلسطيني تجاه الدور التركي في المنطقة في حال أعلن إنهاء الانقسام من هناك.
بتقديرنا فإن موقف فتح معروف ومعلن ويتمثل في إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية كمدخل لإنهاء الانقسام، فيما تريد حماس ضمانة لتعويض خسارتها لغزة في حال أجريت الانتخابات وخسرتها مثلاً، لكنّ هناك أكثر من سبب يدعو للتفاؤل بالقدرة على التوصل لاتفاق، فرغم أنه من المستبعد أن تتقدم الحركتان للانتخابات بقائمة مشتركة كما طرح سابقاً، ولا حتى كل الفصائل بقائمة واحدة، لأن ذلك يعني عدم وجود تنافس، فهناك العرقلة الإسرائيلية التي يمكن أن تمنع إجراء الانتخابات، ثم هناك التمثيل النسبي الكامل، الذي يمنع العودة للتفرد بالسلطة، كذلك التحول في ميزان القوى على الأرض.
المهم هو أن محور الاعتدال العربي، بفضل التطبيع قد تبدد، وربما لا يطول الوقت حتى نرى تلاشي الجامعة العربية، وظهور محاور إقليمية هي فعلياً ثلاثة في الشرق الأوسط، إسرائيل وتركيا وإيران، تتوزع الدول العربية عليها وفيما بينها، بحيث يتحول العالم العربي إلى منطقة نفوذ أو تقاسم بين هذه الدول، بما يمكن تسميته سايكس بيكو جديد، أو هو الشرق الأوسط الجديد، بحيث لن يقتصر الأمر على التوزع الأفقي بين الدول وحسب، بل أيضاً داخل الدول بين الأنظمة والشعوب، وكما هو معروف فإن القضية الفلسطينية تظل عامل أو عنصر توحد بين الشعوب العربية، لذا فإن انحياز فلسطين لأحد المحاور يعتبر أمراً بالغ الأهمية.
ما هو ثابت هو أن فلسطين وهي دولة غير متحققة في الجغرافيا تعتبر عاملاً مؤثراً في ترتيبات الإقليم أكثر بكثير من دول قائمة، وهكذا فإن التطبيع قد فتح أبواباً كانت مغلقة، منها أبواب الصراع الإقليمي، فإذا كانت الإمارات قد أدخلت إسرائيل لحدود التماس مع إيران، فإن فلسطين قد تجلب تركيا وحتى إيران إلى حدود التماس مع إسرائيل!
[email protected]
أضف تعليق