على أثر عجز النظام العربي عن حماية فلسطين ومنع قيام دولة إسرائيل في حربه مع العصابات الصهيونية العام 1948، ظهرت حركة التحرر العربي، التي قامت بإسقاط عدد من الأنظمة الملكية في مصر والعراق واليمن، وأقامت بدلاً منها أنظمة حكم قومية، ثورية تقدمية، انحازت للشعوب، عبر تأميم الشركات الاستعمارية، واتباع سياسة مجانية التعليم والعلاج، وتوفير السكن الشعبي، وفتح أبواب الوظيفة العامة للمواطنين الفقراء، وكل متطلبات الحياة الحرة الكريمة لشعوبها، فكانت فلسطين حافزاً لحركة التحرر العربي، بعد أن شاهد الضباط الأحرار الذين شاركوا في الحرب من دول الجوار، ما يسببه فساد الأنظمة من ضرر وخطر بالقضايا القومية العربية، وكذلك بالقضايا الوطنية لكل قطر.
كأن التاريخ يعيد نفسه مجدداً، ففي حين انطلق الشارع العربي في حراك من أجل تعديل مسار النظام العربي، في زمن آخر، هو زمن الهيمنة الأميركية المنفردة بالعالم، بعد الحرب الباردة، سارعت دول تشبه تلك الدول التي مثلت الخاصرة الضعيفة لمناعة الجسد العربي في وجه الاستعمار، تدخلت تلك الدول بعامل الثروة النقدية، وبحكم التبعية السياسية للغرب الأميركي، لتحبط الحراك الشعبي، وتدير دفته ليحدث الانقلاب بدلاً من الثورة، وحيث كانت دائماً فلسطين بوصلة العرب، وقضيتهم الأولى، فإن الموقف منها والسياسات المتبعة تجاهها، كانت دائماً تكشف حقيقة، إن كان النظام العربي فاسداً أو صالحاً.
أما مؤسسة جامعة الدول العربية، والتي ترافق تأسيسها مع نشوء قضية فلسطين، فكانت على مدار العقود الماضية تمثل إطاراً جامعاً للأنظمة وليس للشعوب العربية التي ما عرفت حتى اليوم نظام الحكم الديموقراطي، رغم التباين في المواقف من القضايا القومية والوطنية بين أنظمة حكم وطنية وأخرى مرتبطة بالغرب، لذا لم تكن لتقرر شيئاً، ولا لتفرض موقفاً، بل كانت إطاراً توافقياً، بين نظامي حكم كما أسلفنا، كثيراً ما كانا يتواجهان في مجمل القضايا القطرية، بل إنها في الوقت الذي كرست فيه النظام القطري، قطعت الطريق على طموحات الشعوب العربية بالوحدة والتحرر والتقدم نحو آفاق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لكن وجود وقوة تأثير النظام القومي ممثلاً بمصر عبد الناصر وعراق صدام وسورية البعث، كان كابحاً لتسلّط دول النفط، لذا فبعد التحولات والانقلابات التي شلّت من نفوذ العراق وسورية، وخفضت من قوة تأثير مصر في القرار العربي، تزايد مع مرور الوقت نفوذ دول النفط.
اليوم وكما كانت في الماضي فلسطين حافزاً لظهور ثورة قومية بعد نكبة 48، تعود فلسطين لتكشف عورة النظام العربي بمعظمه، أو بإطاره العام ممثلاً في جامعة الدول العربية المنحازة أولاً لأنظمة مستبدة، وثانياً لقوة المال المتشابك مع أثرياء العالم، بعد أن أحدث انتهاء الحرب الباردة انقلاباً كونياً، فتح أبواب المجتمع البشري الكوني على مصراعيه لاتساع الفجوة بين الثراء والفقر، انقلاباً جعل من دولة لا يتعدى تعداد سكانها مليوني نسمة أهم من دولة تعداد سكانها مئة مليون، ودولة لا تتسع مساحتها لأكثر من ألف كليو متر مربع لتتجاوز في الأهمية دولة مساحتها أربعمائة ضعف مساحتها.
لا يمكن تجاهل جوهر الاتفاق الإماراتي/الإسرائيلي من كونه سعي من الدولة الخليجية لطلب الحماية من دولة إسرائيل، إزاء عدو مفترض وهو إيران.
لكن حين تصبح سياسات نظام ما ضارة ليس فقط داخل حدوده بل بالمصلحة القومية، فإن الشعوب العربية تصبح معنية بالأمر، ويصبح من حقها أن تجد الطريقة المناسبة لمنع إلحاق الضرر بالقضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
بل حتى أن دول الجوار غير العربية، سترى في الوجود الأمني الإسرائيلي على مرمى بصرها، خطراً يهددها، حينها لن تنجح إسرائيل ولا غيرها في توفير الحماية لمن لا يقوى على توفيرها لنفسه بنفسه، خاصة أن إسرائيل دولة لا تقدم شيئاً للغير بالمجان، بل إنها لا تعرف سوى مصلحتها، ولا تتبع سوى سياسة أنانية، تطمع في كل الأرض والمال العربيين من المحيط إلى الخليج.
لقد كان الشعب الفلسطيني بمقاومته المتواصلة سداً يمنع تمدد إسرائيل داخل المحيط العربي، وهي أي إسرائيل ما زالت أولا دولة بلا حدود، وثانياً دولة تطمح للتضخم والسيطرة، ولن يطول الوقت، حتى تدرك الشعوب العربية، أن الحرب مع إسرائيل ليست حرباً مع الفلسطينيين وحسب، لذا فإنه كلما تراجعت قدرة النظام العربي عن صد الخطر الإسرائيلي الداهم للعالم العربي، وجدت الشعوب العربية كما وجد من قبل الشعب الفلسطيني، أنه لا مناص لها من التحرك للدفاع عن وطنها الكبير وعن مصالحها، المهددة بالخطر الإسرائيلي، وعجز أو انحياز النظام العربي الحالي للعدو، وانعدام تمثيله للشعوب ومصالحها وطموحاتها، والشعوب العربية هي 400 مليون نسمة، وليست عدة ملايين تعد على أصابع اليد الواحدة تعيش على الحدود الشرقية للوطن العربي الكبير، وبالتأكيد ستجد في مقاومة التطبيع مدخلاً مناسباً، لتفرض العزلة على كل نظام عربي يتحالف مع العدو، ولعل في تجربة الشعبين المصري والأردني الثرية في مقاومة التطبيع خير دليل، وشاهد وخبرة مجربة ومناسبة للتعميم على كل الشعوب العربية.
[email protected]
أضف تعليق