الحروب والمعارك تتشابه مع الجرائم، من زاوية أن السؤال عن المستفيد منها هو سؤال مشترك غالباً، ناهيكم طبعاً عن أن قسماً كبيراً من المعارك والحروب هو في عداد الجرائم.
وحول احتمالات التصعيد على جبهة غزّة من المنطقي والمشروع تماماً طرح سؤال: من المستفيد، وإلى أي درجة؟.
لو بدأنا بإسرائيل فإن الإجابة عن هذا السؤال ممكنة بالرغم من أنها شائكة.
حتى ساعة كتابة هذا المقال لا يبدو أن الخلافات قد حُلّت بين حزب «الليكود» بزعامة نتنياهو وحزب «كاحول لافان» بزعامة غانتس.
وفي الحالتين، أي سواء تم حلها أو حل الكنيست والذهاب إلى انتخابات رابعة بعد ثلاثة أشهر من تاريخ حلّه فإن الذهاب إلى معركة جدية مع غزة ـ والتي يمكن أن تتدحرج إلى حرب كبيرة ـ ليس في مصلحة أي من الفريقين الإسرائيليين.
«الليكود» ونتنياهو تحديداً ليسوا بوارد المغامرة والتضحية «بالمجد» الذي حققوه من خلال الاتفاق «التاريخي» مع دولة الإمارات، وليس من مصلحتهم بالمطلق وضع الحرب على جدول الأعمال، وإزاحة «الانتصار» عن جدول الأعمال الإسرائيلي وعن دائرة الاهتمام الإسرائيلي بهذا الحدث الكبير.
وغانتس بالمقابل ليس له مصلحة في هذا التصعيد لأن آخر ما يفكر به هو التورط في معركة أو حرب قد لا يتمكن من حسمها بالسرعة «المطلوبة»، وقد يظهر للشارع الإسرائيلي كوزير فاشل، ناهيكم عن أن المؤسسة العسكرية والأمنية لا تميل إلى مثل هذا الخيار، ويستحيل عليه الذهاب إلى معركة حاسمة أو حرب من هذا القبيل دون التوافق التام مع حزب «الليكود» ومع نتنياهو على وجه الدقة والتحديد.
يبقى الاحتمال الوحيد هو أن تذهب إسرائيل إلى حرب كهذه «لمنع» الذهاب إلى الانتخابات الرابعة.
هذا الاحتمال ليس لديه فرصة «الزمن» المطلوب للسير على هديه أو التذرّع به أو توظيفه، لأن الوقت للاتفاق بات محصوراً والذهاب إلى الانتخابات الرابعة هو قرار أوتوماتيكي في حالة عدم الاتفاق.
هل يمكن أن تقوم حكومة «تصريف أعمال» بالحرب لقطع الطريق على الانتخابات الرابعة؟
من الناحية النظرية المجرّدة يمكن ولكن:
ما هو مصير فيروس «كورونا» في إسرائيل، إذا أُجبر ربع مليون أو نصف مليون شخص على النزول إلى الملاجئ؟!
وماذا إذا أُجبرت أعداد أكثر من ذلك في منطقة الوسط أو جنوب الوسط إضافة إلى كامل منطقة ما يسمى غلاف غزة؟!
هل تستطيع حكومة تصريف أعمال أن تعرّض الوضع الصحي في إسرائيل إلى مخاطر كهذه وهي حكومة كانت قد تشكلت أساساً لمواجهة أزمة «كورونا»؟
إذاً من وجهة النظر الإسرائيلية لا توجد أسباب كافية للذهاب إلى أي معركة جادة أو إلى حرب حتى ولو كانت محدودة في مداها الزمني وفي أهدافها المباشرة.
أما الأهداف البعيدة لحرب كهذه ـ إن وقعت ـ والتي تتمثل بكسر معادلة القصف بالقصف، وإرغام فصائل العمل المسلح في القطاع على العودة إلى معادلة الهدوء مقابل «تخفيف» الحصار، وهي معادلة تعني في الجوهر: التهدئة مقابل سد الرمق، ومقابل بقاء الانقسام قائماً ومباشراً فإن إسرائيل «مطمئنة» ـ على ما يبدو ـ إلى أنها ستظل قائمة، ولن تتغير أبداً طالما أن إسرائيل تعرف الحدود القصوى للردود الفلسطينية، وطالما أن خطوطها الحمر معروفة للجميع.
باختصار لا توجد مصلحة لإسرائيل بالتصعيد، وليس هناك من أسباب موجبة له، وليست مستفيدة من اندلاعه، خصوصاً أن المعادلة القائمة هي معادلة عضّ أصابع مكشوفة للجهتين.
في الآونة الأخيرة، والأمر يتكرر على مدى زمني طويل وفي كل «التهدئات» السابقة، تعمل إسرائيل ومن دون وجود أسباب جدية على تقليص الهوامش التي كانت قد «التزمت» بها، وتقوم بقضم ما تبقّى منها دون سابق إنذار، ولأسباب تافهة في معظم الأحيان، وغالباً ما يكون الأمر لأسباب داخلية إسرائيلية، وفي سياق المناكفات الحزبية والمزايدات السياسية بين الاتجاهات الرئيسة للسياسات الإسرائيلية.
هذه الممارسات أصبحت تُثقل من كاهل حكام غزة وتضغط عليهم بقوة في ظل التردي غير المسبوق للحالة الاقتصادية في القطاع وحالة اليأس التي وصل لها الناس.
حركة «حماس» تحديداً، وهي الحاكم الفعلي، وكل وجود الفصائل ليس له أي تأثير حقيقي على قرارها، تدرك الأبعاد الحقيقية لتدهور الأوضاع المعيشية، وهي لم تعد قادرة على تبرير استمرارها بالتحكم الوحداني والفرداني بالقطاع إذا لم «تتمكن» من تغيير المعادلة الإسرائيلية للتحكم الفعلي بالقطاع والحصار المطبق عليه، وهي محرجة سياسياً في ظل استمرار الهجمة الأميركية الإسرائيلية على القيادة الشرعية وعلى الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في ظل استراتيجية الضمّ وما رافقها من مزاودات داخلية في إسرائيل حولها، والذي فرض نفسه عليها ـ أي على حركة «حماس» و»الجهاد» كذلك ـ بإبداء بعض «المرونة» في العلاقة مع القيادة الشرعية، خصوصاً بعد الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي برعاية أميركية تامة.
هذه المرونة ستؤدي إلى فتح ملف الانقسام إذا لم تتمكن حركة «حماس» من تأمين شروط معيشية جديدة للقطاع.
وهذا هو بالضبط ما يفسّر العودة إلى سياسة البالونات الحارقة في خطوة تبدو واضحة لإعادة فتح ملف التهدئة.
لاحظوا أرجوكم هنا أن حركة «حماس» تبدو متشددة أكثر من أي تهدئة سابقة، ويبدو الوسطاء في حيرة من أمرهم لأن حركة «حماس» ستتمسك بمتطلبات الالتزام الإسرائيلي مما كانت قد التزمت به وذلك لسببين اثنين:
الأول، أن أي تهدئة جديدة لا تغير في الواقع المعيشي سترتد سلباً على حركة حماس أكثر من أي مرة سابقة.
والثاني، أن حركة «حماس» في قراءتها للوضع الداخلي الإسرائيلي تستبعد أن تذهب إسرائيل إلى حرب، ولذلك فإنها ـ «حماس» ـ ترى في الأوضاع الإسرائيلية «فرصة» قد لا تتكرر قبل أن يفرض إنهاء الانقسام على «حماس» ومن لفّ لفها فرضاً لا ترغب فيه، ولكنها لم تعد قادرة على تفاديه..!
لكل هذه الاعتبارات فإن الذهاب إلى معركة كبيرة وتحمل في طيّاتها دوماً إمكانية التدحرج إلى حرب ليست خاطفة بالضرورة، وفي ظل الأوضاع القائمة في إسرائيل سياسياً وصحياً يعتبر بكل المقاييس مستبعداً.
أغلب الظنّ أننا أمام محاولة إسرائيلية لكي تكون التهدئة هذه المرة مشروطة بالتزامات صارمة من قبل «حماس»، بما في ذلك خارطة محدّدة المعالم لعودة الجنود الإسرائيليين أو رفاتهم، ومنع كل أنواع النشاط من القطاع ضد مستعمرات الغلاف حتى توافق إسرائيل على بعض المطالب الخاصة بتخفيف الحصار وإعطاء هوامش اقتصادية تتيح لحركة «حماس» الاستمرار في التحكم بالقطاع، وبما يربط بين «التخفيف» وبين «ضرورة» استمرار الانقسام، بل وتحويل هذا التخفيف إلى جزء لا يتجزأ من آليات فرض الخطة الأميركية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني.
[email protected]
أضف تعليق