هذا المقال نشر بعد تكثيفه في صحيفة هآرتس الاسرائيلية ، ويأتي في سياق السجالات حول مقال بيت. بينارت .
قبل عشر سنوات اكثر او اقل قليلا ولدى سؤاله عن المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية اجاب محمد حسنين هيكل بانه لا يوجد جدوى او اهمية من هذه المفاوضات ، المفاوضات الاهم هي المفاوضات التي تجري بين اسرائيل وذاتها ، اسرائيل لم تحسم موقفها بعد ، هي تفاوض نفسها ، هذه هي المفاوضات الاهم ، وحتى تحسم اسرائيل موقفها لن يكون للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية اي اهمية . وفي المفاوضات الاسرائيلية الاسرائيلية يأتي مقال بيتر بينارت ليفجر قنبلة من العيار الثقيل ما زالت صداها تتردد في الاواسط السياسية والفكرية بين اليهود في داخل اسرائيل وخارجها ، مقال بيتر بينارت التي نشرها في صحيفة النيويورك تايمز واسعة الانتشار بتاريخ ٨/٧/٢٠٢٠ وبرغم انه يتعرض في بعض جوانبه لمعاناة الشعب الفلسطيني ويقدم حلولا تنهي الى حد كبير هذه المعاناة الا انه لم يجد اي تفاعل يذكر في الجانب الفلسطيني ، وهذا شكل مفاجئة لاواسط يهودية كثيرة ، ربما ان الفلسطينيين قد استوعبوا كلام هيكل متأخرا وتركوا اليهود يفاوضوا انفسهم حتى يستقروا على توجه ، ولكن المؤكد ان الفلسطينيين قد وصلوا لقناعات شبه اكيدة بان اسرائيل ليست جاهزة لاي حل وبالتالي الدخول في هذا السجال مضيعة للوقت ، فاليمين الجارف في الانتخابات الاسرائيلية ولثلاث مرات متتالية وفي فترة قصيرة لم يترك مجالا للشك بان الاسرائيليين قد اختاروا باغلبيتهم نهج التوسع والاستيطان وفضلوه على السلام مع الفلسطينيين . والقلة القليلة من الفلسطينيين التي اشغلها مقال بينارت هي ما تبقى من المثقفين الفلسطينيين الذين ما زالوا يبحثون عن بريق ضو ء في مجتمع يحاصره ظلام الابارتايد والاحتلال والتوسع الاستيطاني المجنون .
مقال بينارت شكل خروجا عن المالوف في ثلاثة امور : اولا في توقيته حيث موجة اليمين التوسعي الاسرائيلي والمتحالف مع يمين شعبوي امريكي تطفوا على السطح وبالتالي شكل هذا المقال صوتا مختلفا الى حد التناقض ، وثانيا المقال استبق نتائج الامر الواقع الذي تحاول اسرائيل فرضه وذلك باستخلاصات استشرافية عميقة ، فهو يرى حقيقة واضحة للعيان وهي " اتخذت اسرائيل قرارها : دولة واحدة يعيش فيها ملايين الفلسطينيين بدون حقوق " وهذا هو فعلا جوهر قرار الضم الضم والتوسع وقتل حل الدولتين ، اما الامر الثالث فهو انه اقترب كثيرا من المس ب " التابو المقدس " في اسرائيل وهو اهمية الدولة اليهودية في العقيدة الصهيونية واجرى مراجعة موجزة مختلفه لها " الدولة ليست هي جوهر الحركةالصهيونية ،انما جوهر الصهيونية هو مأوى يهودي في ارض اسرائيل ومجتمع يهودي مزدهر يمنح اليهود حول العالم الملجأ والنشاط " .
القضية الاهم في مقال بينارت والتي لا تعجب الفلسطينيين والتي ربما هي اهم ما في المقال وتعطيه قوة تاثير وهي انه ينطلق في سعيه للتجديد من داخل الصهيونية نفسها ومن حرصه على " وطن آمن لليهود " . بمعنى ان حرصه على تامين وطن امن لليهود لا يتناقض مع الحقوق المتساوية ، وان الدولة اليهودية لم توفر مثل هذا الوطن الامن " من الصعب اثبات ان هناك الان وطن يهودي امن ومثير ثقافيا .... للدولة اليهودية ( اسرائيل ) تأثير متناقض بهذه الطريقة ، لم تجعل العالم اكثر امانا لليهود " بمعنى او باخر انه لم ينطلق من عداء او لاسامية ، هو يهودي مخلص يتحدث عن " اهمية تجذير علاقتي مع اليهودية والشعب اليهودي التي لا يمكن زعزعة استقرارها او تقويضها من خلال حقيقة انني قد اكون اغرد من خارج السرب " .
ليس الجديد في مقال بينارت انه يدعو لحقوق متساوية ، وانه اكتشف حجم المعاناة الفلسطينية ، وليست جديدا انه اكتشف ان حل الدولتين قد فشل وان سياسة اسرائيل الحالية تقود الى دولة يهودية ليس للفلسطينيين اية حقوق فيها ، كل هذه امور باتت معروفة ولا تحتاج الى كثير من الجهد لاثباتها ، الجديد عند بينارت انه استطاع ايجاد نقطة التوازن بين تحقيق وطن امن لليهود لليهود وازالة الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني ، وان الدولة اليهودية ليس شرطا لتحقيق هذا الوطن الامن ، معادلة تبدوا لاول وهلة شبه مستحيلة ، ولكن بالتدقيق يمكن اكتشاف كم كان ذلك ممكنا ولكن شعارات اليمين الاسرائيلي المتطرف والتي اجتاحت المجتمع الاسرائيلي اهالت كثير من التراب على كل ما هو ممكن ، عندما تزور " نافيه شالوم " على احدى الروابي ما بين القدس وتل ابيب بالقرب من الخط الاخضر تكتشف ان هناك امكانية للعيش المشترك رغم تاثيرات الحروب والعنف المتبادل ، ونافيه شالوم ليس هو المكان الوحيد ، فهناك عشرات الاماكن والمؤسسات تشكل نماذج حية على تلك الامكانية .
سياسة اليمين الاسرائيلي بالضم والتوسع لا تساهم في دفن حل الدولتين فحسب ولكنها من جهة اخرى تفتح الافاق للتفكير في الحلول الصحيحة والتي تجاهلها كلا الشعبين ، والحلول الصحيحة تحتاج لمنطلقات صحيحة ، اهم تلك المنطلقات ان هناك مشاعر جياشة من كلا الشعبين اتجاه هذا الوطن ، كيف تشكلت تلك المشاعر وهل مبررات تلك المشاعر منطقية او وهمية هذه قضايا ليست مهمة ، فالشعور الجمعي عندما يتشكل يصبح قيمة عليا واهم من الحقائق ، هناك حقيقة اخرى وهي ان كلا الشعبين لم يعد قابلا للفناء ، فالحضور الطاغي لكلاهما اقوى من ميزان القوى واكثر تاثيرا من وهم الانتصارات . استمرار الصراع لاكثر من قرن عزز حضور الشعبين بطريقة جعل من تعايشهما على هذه الارض قدرا لا مفر منه ، حتى الطرد الجماعي للفلسطينيين والذي يعشعش في اذهان بعض قادة اليمين الصهيوني لا يحل هذه المعضلة ، الا يتذكر قادة اليمين ان فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية نشأت وترعرت في الشتات واضطروا لاسباب كثيرة التعاطي مع تلك الحركات وادخالهم للوطن عبر اتفاقية اوسلو !!!!
نحن امام وطن واحد وشعبين ، لا ميزان القوى ولا الديمغرافيا يغيران هذه الحقيقة ، الديمغرافيا الفلسطينية امام القوة الاسرائيلية تشكل توازن رعب قد يساهم في تقليص امد الصراع ، ولكن الركون اليه لحسم الصراع هو الوجه الاخر لمن يعتقد ان القوة ستحسم الصراع ، وطن وشعبان هو الحقيقة التي يحاول كل شعب ان يغض النظر عنها بحثا عن انتصار وهمي ، ما زالت يافا اهم من رام الله في الوجدان الفلسطيني ، والخليل اهم من تل ابيب في اعتقاد الكثير من اليهود ، وحتى لو تكثف الاستيطان الاسرائيلي في مكان ما فان الوجود الفلسطيني يطغى في مكان اخر .
المرتكز الاساس لاي صيغة للحل تكمن في الاعتراف بحق الشعبين في وطن ، ويمكن لهذا الوطن ان يكون ملجأ آمن للشعبين . يقودنا هذا المرتكز الى الحقوق المتساوية ، الحقوق الجماعية المتمثلة بحق تقرير المصير ، والحقوق الفردية المتمثلة بالحقوق الفردية على اختلاف جوانبها ، الحقوق المتساوية لا تشكل انتقاص من حقوق الاخرين ، ولا تشكل انتهاكا لامنهم ، الحقوق المتساوية ضمانة للشعبين على حد سواء ، بهذا يصبح هذا الوطن اكثر امنا واكثر استقرارا واكثر قابلية للتطور . ان خلق اوضاع تتحقق فيه مصالح الشعبين وبنفس القدر سيجعل حرص الشعبين على امن واستقرار هذا الوضع بالقدر نفسه .
يختلف الفلسطينيين والاسرائيليين على ترجمة هذه الحقيقة ، وطن واحد وشعبان ، ويختلف كل شعب مع نفسه ، مرد هذا الخلاف هو الارث التاريخي للصراع اولا وازمة الثقة العميقة التي خلفها ، ربما في التاريخ اليهودي ما يبرر تضخيم هذا الخوف ، وفي الحاضر الفلسطيني فان الام الاضطهاد تطغى على كل شيئ اخر ، ولكن يتناسى اليهود انهم وعبر التاريخ وعبر كل ما حل بهم لم يكن الفلسطينيين هم السبب ، الفلسطينيين هم الضحية لما حصل مع اليهود وخاصة بعد الهولوكوست . لا يستطيع اي يهودي ان يفهم ان الالام الفلسطينيين وطغيان القوة الاسرائيلية تدفع بعض الفلسطينيين لانكار الهولوكوست ، بالمنطق طبيعي ان لا يفهم هذا التصرف ولكن الالام الاضطهاد " اليهودي " لهم لم تترك للمنطق مكان . لا تستطيع ان تقول لمن يعاني من نوبة الم حادة تصرف بمنطق ، ما يجعله يتصرف بمنطق هو ازالة اسباب الالام اولا .
الترجمة الافضل لوطن واحد لشعبين هو الدولة الواحدة بحقوق فردية وجماعية متساوية ، ولكن حتى يقتنع الشعبان بالترجمة الافضل يحتاجان لقناعة اقوى بهذا الحل وامام ازمة الثقة والتاريخ الدامي فان هناك مسافة كبيرة ، مسافة مليئة بالدم والتطهير العرقي والكراهية كما يقول عالم السياسة الامريكي اليهودي ايان لوستيك . اما الدولة الواحدة التي تأتي بحكم الامر الواقع والذي تخلقه سياسات اليمين الاسرائيلي الحاكم فهي لا تأتي كحل وانما كمرحلة من مراحل الصراع ، دولة ابارتهايد تتحول بفعل الكفاح الى دولة بحقوق للفلسطينيين اكثر وبالتدريج ، هذه الدولة لا تعبر عن قناعات بقدر ما هي رضوخا للتطورات المتواصلة للصراع ، لكن حتى نقصر تلك الطريق ونخفف الضحايا والدمار فان البحث عن نقطة ما ما بين حل الدولتين الوهم وحل الدولة الواحدة الحلم بالنسبة لاغلبية الفلسطينيين والكابوس بالنسبة لاغلبية الاسرائيليين ، هذه النقطة التي تمثل توازنا دقيقا بين ما هو افضل وما هو ممكن هي رؤية دولتين في وطن واحد .
دولتين للتعبير عن الحقوق الجمعية للشعبين ، ولكن دولتين على حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧ دون تغيير ، دولتان مفتوحتا الحدود يسمحان بحرية الاقامة والتنقل والعيش والعمل بكامل الحقوق المدنية كل شعب في الدولة الثانية وهذا ينطبق على كل المواطنين في الدولتين بما فيهما اللاجئين الفلسطينيين ايا كان سكنهم الان ، دولتان بكامل الاستقلالية والسيادة ، دولتان متعاونتين في كل ما هو مشترك مع الحفاظ على خصوصية كل دولة ، والقدس التي هي جوهر الخلاف تصبح جوهر الاتفاق ، القدس الموحدة بشرقيها وغربها عاصمة للدولتين وتحت سيادة امنية لطرف ثالث محايد وبادارة مدنية مشتركة ومتساوية في الاعضاء والصلاحيات والحقوق ، دولتان تزال من قوانينهما وممارستهما القوانين والتشريعات العنصرية التي تسمح بالتمييز او التفوق او تنتقص من حقوق الانسان .
هو ليس حل الدولتين القائم على الفصل ، وهو ليس حل الدولة الواحدة الذي يعني الدمج وتجاهل الخصوصية ، هو الحل الذي يعزز كل ما هو مشترك ويحافظ على خصوصية كل شعب ، دولتين كمثل شقتين في عمارة واحدة .
الحل هذا ليس من وحي الخيال ولا يتنكر للواقع ، هو يعيد ترتيب الواقع بما يحقق العدالة النسبية ، على اعتبار ان العدالة المطلقة امر طوباوي .
عودة على بدء ، مهم ان يقال هذا الكلام ، فالجدل الذي احتدم على اثر مقالة بينارت هو جدل يهودي ولكن الفلسطينيين عنصر مؤثر وفاعل ليس في الجدل بحد ذاته بل في تقرير مآلات هذا الجدل .
وكما يقول تسيفي برئيل " الشريك الاستراتيجي الوحيد في الصراع العربي الاسرائيلي هو الشريك الذي نرفض التعامل معه وهم الفلسطينيون " ومن الجهة الاخرى نرى من هو مستعد ان يذهب لاخر العالم ليبحث عن حل لمعاناة شعبه ولا يلتفت من الشباك الى جاره والذي هو سبب معاناته !!
[email protected]
أضف تعليق