مرعبة هي المشاهد والآثار التي تسبب بها الانفجار المدمّر في مرفأ بيروت يوم الثلاثاء المنصرم. حال النظام والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية، ومؤسسات الدولة، لا يختلف عن حال الميدان حيث الفوضى عارمة.
الثقة انهارت تماماً فلم يعد الشعب اللبناني على قناعة باستمرار مثل هذا النظام الطائفي، ولا بإمكانية ترميمه إلى الدرجة التي يستطيع فيها أن يخرج لبنان من أزماته العميقة.
يهزّك من الأعماق مشهد الصبايا والشباب المتطوعين، وهم يقفون على نواحي الشوارع والمفترقات يعرضون على من يحتاج من المارة، الماء والطعام. ربما كانت ظاهرة التطوع والمتطوعين هي الأنبل التي تدل على أصالة هذا الشعب، وقدرته على تجاوز الصعاب والأزمات.
مئات الصبايا والشباب هرعوا إلى المكان قبل أن تصل مؤسسات الدولة والبلدية، لإسعاف الجرحى، وتنظيف مخلفات الانفجار الهائل.
من راقب المشهد عبر شاشات التلفزة سيلاحظ بكل بساطة، غياب ظاهرة الاستغلال والاستكساب، حيث يمتنع عن تناول المياه والطعام من ليس له حاجة في ذلك.
عزة وكرامة شامخة يعبر عنها الناس، واستعداد للتضحية من أجل بقاء لبنان عزيزاً مستقلاً.
في المشهد السياسي ثمة تناقضات ظاهرة للعيان فبعض القوى السياسية الطائفية، تهرب من المسؤولية، فحزبا «الكتائب» و»القوات اللبنانية» سحبا أعضاءهما من البرلمان واستجابا لما يطالب به الأب مانويل (الرئيس ماكرون)، وطالبوا بتحقيق دولي، آخرون متمسكون بالوضع القائم، يرفضون أي تدخل دولي في التحقيق، وأيضاً يتهربون من المسؤولية.
الكل يرفض اتهام إسرائيل أو التشكيك بمسؤوليتها عن الجريمة، ولكن كل بدوافع مختلفة، فثمة من يركز تحريضه على «حزب الله»، والرئيس ميشيل عون، والبعض الآخر يرمي بالمسؤولية على الحكومات السابقة، ولا يعفي الحالية، أما «حزب الله» فإنه ينفي علاقته بالانفجار، ويستبعد دوراً لإسرائيل.
ومع أن الرئيس عون لم يستبعد العامل الخارجي وحتى ترامب من خلال تصريحاته في اليومين الأولين، إلاّ أن تهرب «حزب الله» من التشكيك في دور إسرائيل لا يعني سوى أنه لا يرغب في الإجابة عن سؤال الانتقام والرد، شأنه في ذلك، شأن ما يقع من عدوانات إسرائيلية على سورية.
الأب ماكرون، لم يتأخر في الوصول إلى بيروت.. فبلاده لا تزال تتعامل مع لبنان على اعتبار أنه ضمن ولايتها، وقد ذهب بلغة فوقية يملي رؤيته على القوى السياسية ومؤسسات الدولة، لكيفية التعامل مع الأزمة، ودعا على الفور لعقد قمة للدول المانحة.
ربما كانت هناك أصوات أخرى غير مسموعة، تتفق مع وليد جنبلاط الذي دعا إلى تغيير النظام الطائفي، والدعوة لانتخابات نيابية جديدة في أسرع وقت ممكن.
ما تسرب عن لقاءات ماكرون ببعض القوى السياسية، يشير إلى ثمانية شروط لتصحيح الوضع، كلها تتحدث عن مصادرة أسلحة ومراكز «حزب الله»، وفرض رقابة بحرية من الـ «ناتو» على شواطئ لبنان، وإجراء انتخابات جديدة.
الشروط الفرنسية تنطوي على بعد أبوي التهديد فيه واضح، لكنه يقوم على استمرار الصيغة الطائفية في تشكيل النظام الذي لعبت فرنسا دوراً أساسياً في إقراره بعد الحرب العالمية الثانية.
ماكرون كما الآخرين لا يرجّح العامل الخارجي إزاء ما يتعلق بالانفجار، فالهدف واضح وهو نزع سلاح «حزب الله»، من دون أن يتحدث عن أسلحة الأحزاب الأخرى، وإقصاء الحزب عن دوره في الحياة السياسية اللبنانية.
إسرائيل بدورها نفت مسؤوليتها، وتظاهرت بالتعاطف مع الشعب اللبناني، ما استثار الكاتب المعروف جدعون ليفي، الذي كتب ما يشبه إلقاء التهمة على إسرائيل.
يقول ليفي: «المناظر التي شاهدناها هي المناظر التي هددت بها إسرائيل قبل أسبوع إذا تجرّأ «حزب الله» على الانتقام لقتل أحد نشطائه، وفجأة أصبحنا رحيمين وبلدية تل أبيب لوّنت مبناها بألوان علم لبنان». الملف اللبناني معقد إلى أبعد حد، فالقوى السياسية التي عليها أن تستجيب لمطالبات الشعب، وأن تبادر إلى معالجة الأزمة، هي قوى طائفية، لن يخرج عنها ما يتعارض مع مصالحها، وبالتالي لا سبيل إلى أن تؤدي الاحتجاجات الشعبية، إلى تغيير في النظام القائم على الطائفية والفساد. لذلك تبدو الآفاق مغلقة أمام الاحتجاجات الشعبية، التي تتحول إلى أداة في الاستقطابات الداخلية، وفي أحسن الأحوال تحقيق إصلاحات ترقيعية محدودة، ومؤقتة.
واضح أن دعوة ماكرون الرئيس ترامب للتوقف عن سياسة فرض العقوبات على لبنان، إنما تستهدف إنقاذ النظام الطائفي القائم، والإيغال في ممارسة الأبوية السياسية على لبنان، وإعادة صياغته بما يضعف الدور الإيراني، ويحرض على سلاح المقاومة، التي لم تعد تعرف ماذا تفعل.
عنتريات الزعماء السياسيين لا تنفع في شيء سوى محاولة تبرئة الذمم بالمعنى الشخصي والذي يخدم الحزب والطائفة التي يمثلها رغماً عنها، ومن غير المتوقع أن تؤدي التحقيقات الداخلية، إلى أي شيء، وإلقاء التهمة على بعض الضحايا الثانويين، أما التحقيق الدولي، فإنه سيكون محكوما بأجندات سياسية دولية وإقليمية، ولعل تجربة لبنان في ملف التحقيق الدولي باغتيال الحريري تؤكد ما يمكن أن تذهب إليه التحقيقات بكل انتماءاتها الوطنية والدولية.
في كل الأحوال فإن الشعب اللبناني لن يكون إلاّ نفسه، شعب العزة والكرامة، والمقاومة.. فلقد أثبت التاريخ أنه العنقاء التي تنبثق في كل مرة من تحت الرماد، مهما اشتدّت العواصف، وأنكره الأشقاء والأقرباء وتآمروا على وحدته واستقلاله.
[email protected]
أضف تعليق