أظهرت واقعة الانفجار الأليم في بيروت، يوم الثلاثاء الماضي، من ناحية، مدى التعاطف الشعبي العربي، مع لبنان، حتى ظهر العرب، كما لو كانوا جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، ومن ناحية أخرى كانت سبباً في تأجيل عدد من الوقائع والأحداث المهمة، داخل لبنان وخارجه، فقد كان مقرراً إعلان نتيجة التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قبل أعوام، حيث من المتوقع ان يتضمن ذلك الإعلان تورط حزب الله في عملية الاغتيال، ما يعني وضع الداخل اللبناني على شفا حرب أهلية، لكن انفجار بيروت أرجأ الإعلان الى الثامن عشر من آب الحالي، فيما كان الانفجار أيضاً سبباً في تأجيل رد حزب الله على مصرع احد عناصره في غارة إسرائيلية على سورية الشهر الماضي.
إسرائيل تابعت بحذر مرفقاً بالتهديد باستهداف البنية التحتية للبنان، ردود فعل حزب الله على مصرع علي كامل محسن، يوم الخامس والعشرين من الشهر الفائت، لذا فإن لبنان بالأصل كان يترقب احتمال حدوث وقائع من شأنها ان تزيده التهاباً، خاصة وهو يمر بأزمة اقتصادية/مالية طاحنة، تتطلب نحو مئة مليار دولار، حتى يتعافى اقتصاده المنهك، الذي زادته العقوبات الأميركية صعوبة، الأمر الذي دفع بالمواطنين للخروج الى الشارع، خلال وبعد ازمة تشكيل الحكومة الحالية.
في حقيقة الأمر أن المنطقة لم تخرج بعد من عقد مرير من السنين، انفجرت فيه دواخل اكثر من بلد عربي، شهدت حروباً داخلية طاحنة، وجرت عداءات مع اكثر من بلد مجاور، فضلاً عن التأثير السلبي على حالة التضامن العربي الرسمي الهشة أصلاً، وما ان بدأت الأمور في الهدوء قليلاً، حتى كانت كل من إسرائيل والولايات المتحدة، تتدخلان مجددا للإبقاء على التوتر في أكثر من ملف.
الولايات المتحدة ومنذ ثلاث سنوات، تراجعت عن الاتفاق مع إيران حول ملفها النووي، وحرضت دول الخليج، لدرجة ان حرباً كادت تقع في شرق الوطن العربي، أما إسرائيل فواصلت التدخل العسكري في سورية، لمنعها من التعافي بعد حسم الحرب الداخلية لصالح النظام، وواصل الطرفان الضغط على السلطة الفلسطينية من اجل فرض الاستسلام عبر صفقة ترامب وخطة الضم على الشعب الفلسطيني.
لكن حدثاً مفاجئاً، لم يكن بيد أحد من هؤلاء، وقع، فشلّ قدرة بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب على الذهاب بعيداً في تحقيق مآربهما العدوانية والعدائية تجاه فلسطين، وتجاه أكثر من بلد عربي وإقليمي، وبالأساس من اجل المزيد من تمزيق وتفتيت العالم العربي.
وكانت فلسطين وربما الشرق الأوسط برمته على موعد مع الانفجار الكبير، قبل أكثر من شهر، حين أعلن نتنياهو عزمه الشروع في تنفيذ ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وما ان حل الموعد دون ذلك الإعلان، حتى دخلت العلاقة الفلسطينية_الإسرائيلية حالة من الترقب، لم تنته بعد، وهي على الأرجح تحتاج أسابيع أخرى، من أجل الوقوف على ما سيكون عليه الحال فيما بعد.
أسابيع قادمة قليلة، حتى يوم الخامس والعشرين من الجاري، الموعد النهائي لإقرار الميزانية الإسرائيلية، سيتضح خلالها مستقبل الحكومة الإسرائيلية، ذلك ان الخلاف بين حزبي الليكود و»أزرق_ابيض» يبدو حاداً ومفصلياً، فنتنياهو وجد في محاولة فرض ميزانية لعام واحد فرصته لتحويل بيني غانتس الى مجرد تابع له، و»ازرق_أبيض» الى حزب آخر يلتحق بركب اليمين، كما هو حال «البيت اليهودي» مثلاً، اي تفريغ اتفاق الشراكة من مضمونه، لذا فان غانتس يعتبر انه من المستحيل عليه ان يتراجع عن الاتفاق بإقرار الميزانية لعامين، وإلا فانه لن يكون بمقدوره التأثير في أي خلاف مستقبلي مع الليكود.
المثير في الأمر هو تدخل أحزاب الحريديم، اي حزبي شاس ويهودت هتوراة، معاً، بشكل موحد يظهر بأنهما يمثلان «مجتمعاً داخل المجتمع»، وان الحريديم عملياً هم كتلة سياسية مستقلة، ليست مندمجة ولا بأي حال مع اليمين، حيث أعلن الحزبان بوضوح بانهما لن يدعما نتنياهو في انتخابات قادمة، وذلك بهدف الضغط على الأقل على من تحالفوا معه خلال السنوات الماضية، لعدم التشبث بميزانية العام الواحد، متسلحاً بقدرته على حسم انتخابات رابعة لصالح تحالف اليمين_الحريديم، دون الحاجة لـ «أزرق_أبيض» او غيره.
ملخص القول، هو ان الثامن عشر من الجاري، سيكون لبنان قد لملم جراحه الناجمة عن الانفجار، الذي أغلب الظن انه لم يكن عملاً عدوانياً، بل ناجم عن فساد بنيوي في النظام الحالي، متراكم منذ سنوات، وان اعلان نتيجة التحقيق في اغتيال الحريري الأب، أيا تكن فهي تجري في ظل تراجع تأثير سورية لدرجة انه بات معدوماً تقريباً، داخل لبنان، مع وجود التأثير القوي لحليفها حزب الله، بما يعني ان نتيجة التحقيق ستعلن بحرية، لدرجة انه لو كان هناك يد لسورية، فسيعلن عنها، وفي كل الأحوال، إعلان نتيجة التحقيق ستحدث صخباً داخلياً، قد تكون له ابعاد إقليمية شديدة الوقع.
كذلك فإن إسرائيل ستواجه استحقاق الخامس والعشرين من الجاري، بأحد احتمالين مرجحين هما: ان يخضع الليكود، ويزيد بذلك تأثير «أزرق_أبيض» داخل الحكومة، او انتخابات رابعة، ستؤجل محطات المواجهة خاصة مع الجانب الفلسطيني. ومن بعيد بعد ذلك، لا بد من مراقبة سير انتخابات الرئاسة الاميركية في الثالث من تشرين الثاني القادم، وهكذا يكون هذا العام 2020 عام ترقب، كما لو كان استراحة بين شوطي مباراة كرة قدم، سُجل كعام لـ «الكورونا» فقط، حيث ظهر الى أي مدى ليس العالم بأسره متداخلاً فيما بين دوله وشعوبه فقط، ولكن المدى الذي تداخلت فيه السياسة مع الاقتصاد، مع الصحة العالمية، بحيث لم يعد ممكنا القول بأن ما يحدث في لبنان شأن خاص بأهله فقط، أو أن ما يحدث في فلسطين لا يهم او لا يعني ليس العرب فقط، بل كل شعوب العالم، الذي صار حقاً وقولاً وفعلاً أشبه بقرية صغيرة، او حتى ببيت واحد، على جميع ساكنيه ان يجتمعوا للشراكة في تقرير مصيره، وفي صنع مستقبله معاً وسوياً.
[email protected]
أضف تعليق