برنارد هنري ليفي الذي يَصِفه أنصاره بأنّه الأب الروحي للثورة الليبيّة يحُط الرّحال في مصراته.. هل جاء لتفقّد “إنجازاته” بعد عشر سنوات من تدخّل الناتو؟ ومن سمَح لطائرته الخاصّة بالهُبوط والتجوّل في ترهونة؟ ومن الذي يَقِف خلف هذه “الإهانة”؟

عبد الباري عطوان
بعد عشر سنوات مِن مُشاركته الفعّالة في تدمير ليبيا عبر مُساهمته بدعم “الثورة” من خِلال لعبه دورًا كبيرًا في إقناع الرئيس الفرنسي السابق نيكولاس ساركوزي بالتدخّل عسكريًّا للإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي واستشهاد أكثر من 30 ألف مُواطن ليبي مزّقت أجسادهم الطّاهرة طائرات حلف النّاتو، ها هو “الفيلسوف” برنارد هنري ليفي الذي يَصِفه أنصاره العرب بأنّه الأب الروحي لثورات “الربيع العربي” يَحُط الرّحال في مطار مصراته، ويحظى باستقبال الفاتِحين، وينشر لنفسه صُورًا على وسائل التواصل الاجتماعي مُحاطًا بالمسلّحين والمُقنّعين، وعلامات الفرح باديةٌ عليه، ومُعلنًا بأنّه يَقِف في وسط مدينة ترهونة في الغرب الليبيّ.
في كتابه الذي حمل عُنوان “الحرب بدون أن نُحبّها” إلى جانب كُتب أخرى وثّق فيها يوميّاته في ليبيا، وصَف ليفي كيف كان من أوّل الواصلين إلى بنغازي لتأييد “الثوّار”، وتباهى بقُدرته على إقناع الرئيس ساركوزي بالتدخّل عسكريًّا وإرسال طائرات حربيّة وصلت إلى الأجواء الليبيّة وقصفت أهدافًا عسكريّةً فيها، مثلما وصف كيف التقى السيّد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي بعد ساعات من تنصيبه، وترتيب لقاء لوفده للقاء الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه برئاسة عبد الفتاح يونس، حامِلًا قائمة بالمطالب العسكريّة تضم 100 آليّة عسكريّة رباعيّة الدّفع، ومئة سيّارة “بيك آب” و800 قاذف “آر بي جي” المُضادّة للدبّابات، وألف مدفع رشّاش، وخمسة منظومات صواريخ ميلان.
***
الأكثر أهميّةً أنّ “الفيلسوف” ليفي أكّد أنّه انطلق في هذه المَهمّة من عقيدته اليهوديّة، وخدمةً لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، واستِقرارها، وحِرصِه على قِيام عُلاقات دبلوماسيّة بينها وبين النظام الليبي الجديد الذي سيَحكُم ليبيا بعد الإطاحة بنظام القذافي الديكتاتوري العسكري “الفاسِد” حسب توصيفه.
ليفي وصَل إلى مصراته على ظَهرِ طائرةٍ خاصّةٍ حصلت على إذنٍ بالهُبوط صادر عن سُلطات المطار، وبتأشيرةِ دُخول مُعتمدة من وزارة الخارجيّة في حُكومة الوفاق، ولكن مكتب السيّد فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي أصدر بيانًا نفى فيه أيّ عُلاقة له بها وأمَر بالتحقيق لمعرفة “كافّة الحقائق والتّفاصيل المُحيطة بها واتّخاذ الإجراءات اللّازمة” وجاء هذا الموقف بعد حالة الغضب التي سادت مُعظم ليبيا رفضًا لهذا الرّجل الذي لَعِب دورًا كبيرًا في تدميرها، وبذَر بُذور الفِتن لزعزعة أمنها واستِقرارها ووحدتها الترابيّة.
شاركت مع برنارد هنري ليفي في أحد أهم البرامج التلفزيونيّة البريطانيّة NewsNight”” الذي كان يُقدّمه المُذيع الشهير جيرمي باكسمان، وكُنت ضيفًا في الاستوديو في لندن وكانت مُشاركة ليفي عبر الأقمار الصناعيّة من باريس، رفض ليفي في هذا اللّقاء إدانة أو حتّى انتقاد جرائم الحرب التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في هُجومه على قِطاع غزّة عام 2014، رغم إلحاح مُقدّم البرنامج، وأيّد هذا العُدوان لأنّه جاء، حسب رأيه، لمُحاربة الإرهابيين من حركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” مثلما رفض أن يعتبر هذا العُدوان الذي أدّى إلى تدمير وإعطاب مِئة ألف منزل واستِشهاد حواليّ 3000 شخص ثُلثُهم مِن الأطفال جريمة حرب أو انتهاكًا لحُقوق الإنسان يستدعي إرسال الطائرات الفرنسيّة لوقفه وحِماية الأبرياء مثلما فعل في ليبيا، وفيديو هذا البرنامج موجود في أرشيف “بي بي سي” القناة الثانية.
ليفي يُعتبر من أشرس المُدافعين عن دولة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمها في الأراضي المحتلّة، كما كان من بين “المُحتفلين” باستِفتاء الانفصال الكُردي في شمال العِراق، وأيّد استِقلال جنوب السودان، وطالب بتدخّلٍ عسكريٍّ في دارفور، ودعم بقوّةٍ المُعارضة السوريّة للإطاحة بالنّظام السوري عبر الخِيار العسكريّ.
ليفي يزور ليبيا للأسف، وعبر بوّابةٍ رسميّة، وفي وضَح النّهار، ويحظى باستقبالٍ رسميٍّ، ليتَفقّد “إنجازاته” والاطّلاع على نتائج “المُعجزة” التي تحقّقت على أرضها بمُساهمةٍ كبيرةٍ منه، أي تحويلها إلى دولةٍ فاشلةٍ ونهب 300 مليار دولار من ودائعها التي أودعها النظام الذي جاء على ظهر دبّابة، أو تحت أجنحة طائرات حِلف الناتو للإطاحة به وقتل عشرات الآلاف من أبنائه، وتهجير الملايين إلى دول الجِوار، إلى جانب قتل العقيد القذافي وانتهاك عرض جثّته، بطريقةٍ لم تَحدُث في التّاريخ الحديث.
توقيت هذه الزيارة يبدو “مُريبًا” بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولا نعتقد أنّها بِنت ليلتها، وأنّما كانت نتيجة اتّصالات وعمليُات تنسيق استمرّت أيامًا إن لم يَكُن أكثر، فهي تأتي في ذروة الاستِعدادات لمعركة “سرت الجفرة” المصيريّة بالنّسبة للطّرفين الخَصمَين في الشرق والغرب التي تسير الاستِعدادات لها على قدمٍ وساق، فهُناك “أمور” يجري طبخها في الخفاء ويُشكّل الفيلسوف ليفي أحد رؤوس الحِربَة فيها؟ ولماذا قام بهذه الزّيارة الآن؟ وهل الصّفة الصحافيّة التي يتستّر خلفها، أي كتابة تحقيق عن مجازر ترهونة لصحيفة “وول ستريت جورنال” المُفضّلة للرئيس دونالد ترامب حجّةٌ مُقنِعة؟
***
نقول شكرًا لكُل مواطن ليبي قال لا لصاحب هذه “المُعجزة” ورفَض أن تطَأ قدماه أرض ليبيا الطّاهرة، بعد أن اتّضحت معالم، وهُويّة، المُؤامرة والمُتآمرين، وليس لدينا أدنى شك بأنّ أحفاد الزّعيم الشهيد عمر المختار الذي تقدّم إلى حبل المِشنقة رافِعًا الرأس رافِضًا الاستعمار وواثقًا من انتصار ثورة شعبه، سيَتصدّون لكُل المُتآمرين على أمّتهم ووطنهم ووحدته الترابيّة والديمغرافيّة، وسيُقدّمونهم إلى محاكمٍ عادلةٍ نزيهةٍ لنيل القصاص الذي يستحقّونه لِما ارتكبوه من جرائمٍ ومجازرٍ بَشِعَةٍ.. والأيّام بيننا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]