من الطبيعي أن يستقبل الشعب الفلسطيني ببرود، أو بترحيب مشوب بالحذر، ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده كل من جبريل الرجوب وصالح العاروري، والإعلان عن الاتفاق على وحدة ميدانية لمواجهة الضم ورؤية ترامب.

فهذا المشهد شاهده الشعب مرات عدة، وسط الإعلان عن اتفاقات المصالحة، من اتفاق مكة، ومرورًا باتفاق القاهرة الأول، وإعلان الدوحة، وإعلان مخيّم الشاطئ، وليس انتهاء بإعلان القاهرة الثاني في تشرين الأول 2017، وما بينها من جولات ولقاءات شهدتها موسكو وصنعاء وبيروت وداكار، وما رافقها من عدد لا حصر له من الاجتماعات والمؤتمرات والورشات والندوات وتقديم الأوراق البحثية والسياساتية في مختلف أنحاء العالم، لم تبق حجرًا على حجر إلا وبحثت تحته وحوله من أجل إنجاح الجهود والمبادرات الرامية إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.

ينطوي ما حدث على مفاجئة سببها أننا لم نشهد منذ فشل اتفاق القاهرة الثاني مبادرات أو اتفاقات جديدة ترمي إلى تحقيق الوحدة، رغم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وإعلان الأخيرة عاصمة لإسرائيل، وطرح رؤية ترامب، وظهور وباء كورونا، بل على العكس استمر الانقسام وتعمّق. فماذا عدا عما بدا؟ فهذا الإهمال لملف الانقسام المستمر لأكثر من سنتين يدل على التعايش مع الانقسام واليأس من إمكانية تحقيق الوحدة.

ما يدعو إلى تفاؤل حذر أن التوقيت الذي عقد فيه المؤتمر الصحافي مهم جدًا. فنحن عشية الشروع في تطبيق خطة الضم، بعد اعتمادها في برنامج الحكومة الإسرائيلية، وجاءت بعد إعلان القيادة الفلسطينية عن التحلل من الاتفاقيات، وتجميد التنسيق مع الاحتلال بكل أنواعه، إلى درجة الامتناع عن استلام أموال المقاصة رغم الحاجة الماسة إليها، في محاولة لإعطاء مصداقية وجدية لتهديد السلطة بحل نفسها، أو تحوّلها إلى دولة عبر إجراء أحادي الجانب، وما قد يرافق ذلك من سحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل.

ونظمت حركة فتح ثلاثة مؤتمرات في الأغوار وبعض المظاهرات تأكيدًا لرفضها لخطة الضم، ولتحذير إسرائيل من مغبة وتداعيات تنفيذها، إلى جانب تنظيم حراك دولي كبير ضد الضم. فالسلطة أظهرت بهذه التحركات إصرارها على إحباط الضم، والحدود التي لن تتخطاها، حيث أبدت الاستعداد لمنع المقاومة المسلحة رغم توقف التنسيق الأمني، مع التلويح بأن الضم يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيطرة وانهيار السلطة واستخدام كل أشكال النضال.

في نفس الوقت، هددت حركة حماس بأن الضم يعني إعلان حالة حرب، ونظمت المؤتمرات والمظاهرات الرافضة لهذه الخطة وحذرت من عواقبها، هذا في الوقت الذي تحرص فيه "حماس" على بقاء معادلة "الهدوء مقابل رفع أو تخفيف الحصار"، (وهذه "التهدئة" توفر نقطة تقاطع مشتركة بين الحركتين)، منهمكة في مفاوضات غير مباشرة لإتمام صفقة تبادل أسرى جديدة تحقق فيها نصرًا جديدًا. لذا، فإنّ آخر ما تريده "حماس" مواجهة عدوان عسكري إسرائيلي جديد، مع جاهزيتها طبعًا للتصدي له إن وقع.

في هذا السياق، ومن دون وساطة عربية أو صديقة، أعلن كل من الرجوب والعاروري عن اتفاقهما على الوحدة على أرض المعركة، في ظل أجواء تصالحية وكلمات أوضحت وجود أساس سياسي مشترك يتمثل في رفض رؤية ترامب والاتفاق على "حل الدولتين"، المصطلح الذي استخدمه العاروري، مع إشادته بموقف الرئيس محمود عباس في مواجهة صفقة ترامب، وبالحملة الديبلوماسية التي يقودها، مع تأكيده على احتفاظ "حماس" بالحق في استخدام المقاومة بكل أشكالها.

جاء المؤتمر في وقت حرج، وبمبادرة فلسطينية من دون تدخل خارجي، وتبنى طريقة جديدة تركز على الوحدة في الميدان، من دون الحديث عن تشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني أو تمكين الحكومة القائمة، ولا عن منظمة التحرير أو مواعيد لإجراء الانتخابات، أو دمج الموظفين في غزة وصرف رواتبهم ... إلخ، كما كانت تتضمن الاتفاقات السابقة، وظهر فيه ممثلان لحركتي فتح وحماس مختلفَيْن عمن أدارا ملف المصالحة في السابق.

يتحدد معيار نجاح المحاولة الجديدة بمدى استنادها إلى خطة متكاملة تتضمن الاتفاق على الأهداف المباشرة، وهل هي إسقاط الضم، أم رؤية ترامب، أم إنهاء الاحتلال، إلى جانب الاتفاق على أشكال النضال، وهل تشمل المقاومة الشعبية وتجنب المقاومة المسلحة كما تريد "فتح"، أم تتضمن المقاومة المسلحة كما من المفترض أن تريد "حماس"؟

من الناحية النظرية هذا ممكن التحقيق، ولكن من الناحية العملية يتوقف على مدى توفر الإرادة لتحقيق ذلك، لذا فالإجابة بحاجة إلى الانتظار.

إن البداية للحكم والبناء على هذه المحاولة تكون بوقف حملات التحريض المتبادل، وإطلاق سراح المعتقلين لدى الجانبين، والسماح بحرية العمل لـ"حماس" في الضفة و"فتح" في غزة.

أما نقاط الضعف التي تهدد المحاولة الجديدة، فتتمثل في:

أولًا: أنها جاءت من دوافع تكتيكية، فالسلطة تهدد من خلالها الاحتلال بالوحدة الميدانية، مثلما هددته بحل السلطة، وهي لا تنوي بالفعل حل السلطة ولا تحقيق الوحدة المبنية على الشراكة خشية من عواقب ذلك، داخليًا وخارجيًا، في حين أن المطلوب وضع إستراتيجية كاملة تتضمن إنجاز الوحدة باعتبارها ضرورة، وتقوية السلطة وتغييرها، والاعتراف بالخصائص التي تميز بين السلطة في الضفة عن السلطة في غزة، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي.

في المقابل، رحبت "حماس" بالمحاولة، لأنها لا تغير واقع سيطرتها على القطاع، وستزيل أو تخفف عنها الحرج من عدم استخدام ما تملكه من صواريخ وقدرة على المقاومة في الضفة، رغم المخاطر الجسيمة التي تهدد القضية الفلسطينية، خشية من أن تقود إلى مواجهة عسكرية شاملة في وقت لا تريدها.

ثانيًا: تتجاهل المحاولة ما لا يمكن تجاهله، وهو الانقسام، وتؤجل العمل على إنهائه، أي أنها تتعايش معه، وهذا قد يساعد على تكريسه أو لا يتوقف على مدى جدية الوحدة الميدانية .

ثالثًا: تركز على إحباط خطة الضم، وتتجاهل الاحتلال وما ترتب عليه من ضم زاحف، وتزايد الاستيطان بمعدلات كبيرة، حيث من المحتمل إذا أُجّل الضم أو طبق بشكل رمزي ومحدود، فمن الممكن، ولا أقول السيناريو الوحيد، أن "تعود ريما لحالتها القديمة".

وقد يتفاقم هذا الأمر في حال نجحت المحاولات التي تبذلها الأمم المتحدة وبقية أطراف اللجنة الرباعية لاستئناف المفاوضات، وفشلت حتى الآن على خلفية إصرار الإدارة الأميركية على أن تكون على أساس رؤية ترامب مع طرح الجانب الفلسطيني رؤيته المضادة لها، وذلك ضمن معادلة مختلفه طرحها الأمين العام للأمم المتحدة تقوم على وقف الضم مقابل الموافقة على مفاوضات من دون أساس سياسي، وبلا مرجعية واضحة ملزمة. ويتعزز هذا الاحتمال في حال فوز المرشح الديمقراطي جون بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية.

وهنا لا بد من تحذير كبير من خطورة استئناف المفاوضات من دون أساس سياسي ومرجعية ملزمة بين طرف قوي وطرف ضعيف، فالنتيجة الوحيدة المحتملة أن يحصل القوي على ما تبقى لدى الضعيف.

وحتى تنجح المبادرة الجديدة، لا بد من استخلاص الدروس والعبر من فشل المبادرات والاتفاقيات السابقة، ومنها:

أولًا: ضرورة الاتفاق على برنامج سياسي وطني يقطع الصلة مع أوهام التوصل إلى حل عبر المفاوضات في الوضع الحالي، ويجسد القواسم المشتركة، والاتفاق على أشكال النضال، إذ لا يعقل أن يقوم طرف بالنضال السلمي والآخر بالمقاومة المسلحة، وهذا بات ممكنًا أكثر من السابق بعد أن وافق الطرفان على هدف إقامة الدولة على حدود 67، وبعد أن تجاوزت الأحداث اتفاق أوسلو، واتضح أن الجميع في مأزق، ولا أحد وحده يملك الحل ولا القدرة والضمانة لاستمرار الوضع الراهن، فضلًا عن أن الأسوأ قادم لكليهما.

وثانيًا: ضرورة الشراكة على أسس موضوعية متفق عليها إلى حين التمكن من إجراء الانتخابات، وهذا يعني التخلي عن كل ما من شأنه تعميق الانقسام، لا سيما محاولات "فتح" لإعادة السلطة التي تتحكم بها إلى غزة، وإبعاد "حماس عنها، ومحاولات "حماس" للاحتفاظ بالسلطة في غزة، والسعي للحصول على مكاسب جديدة، مثل الحصول على تمويل لسلطتها، والانضمام إلى منظمة التحرير .

وثالثًا: اعتبار الوحدة الميدانية مجرد البداية، ويجب أن يكون الهدف واضحًا ومتفقًا عليه، وهو العمل على تحقيق الوحدة الشاملة، وهذا يتطلب الشروع، بشكل موازٍ، في حوار فوري وطني شامل جادّ، وليس فصائليًا فقط، لتذليل كل العقبات وإرساء أسس وحدة صلبة.

الوحدة تقوم حقًا على أساس معادلة لا غالب ولا مغلوب، ووضع حد لانفراد وهيمنة "فتح" على السلطة والمنظمة وسيطرة "حماس" الانفرادية على غزة، بحيث تكون السلطة والمنظمة للجميع.

رغم كل التحذيرات الوجيهة من إمكانية فشل المحاولة، لا بد من عمل كل ما يلزم لإنجاحها، لا سيما أن الوحدة الميدانية تحققت في الانتفاضتين الأولى والثانية، وفي تجارب محلية عديدة في أكثر من منطقة، وأن نجاحها يمكن أن يوفر أجواء مناسبة لفتح الطريق لإنهاء الانقسام.

وهنا لا بد من التنبه إلى أن إسرائيل القلقة من أي مظهر وحدوي ستعمل على إفشالها، إلى جانب أن جماعات مصالح الانقسام - هنا وهناك - التي ازدادت نفوذًا وثروة ووزعت المناصب والمكاسب على محسوبيها؛ ستفعل كل ما تستطيع فعله لإفشال الوحدة، حتى لو كانت ميدانية .

وتبقى الوحدة على أساس البرنامج المشترك والشراكة الحقيقية هي الضرورة التي لا غنى عنها، وطريق الانتصار، ولكنها تحتاج لكي تنجز إلى وقت وتغيير ملموس في الخارطة السياسية الفلسطينية القائمة، ولا بد من العمل لكي تتغير بأسرع وقت وقبل فوات الأوان.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]