للوهلة الأولى يستنتج البعض ممن يراقب المشهد الدولي بأن ما هي إلا خطوات معدودة وتصفى القضية الفلسطينية ويتحقق النصر المؤزر للإدارة الأمريكية والإحتلال الإسرائيلي ومجموعة التطبيع العربي الشاذ ومن معهم..
فعاصمة الكيان الأبدية أصبحت القدس، وجدار الفصل العنصري قد اكتمل، وقانون القومية اليهودي قد اعتمد، وترحيل من تبقى من الفلسطينيين قادم، ولا عودة للاجئين، و"الأونروا" ستقفل أبوابها، والتوطين حاصل، وتبادل الأراضي واقع لا محالة، وضم الضفة الغربية والأغوار ها هو قادم، وصفقة القرن ستتحقق.. وغيرها من الأعمدة الفلسطينية التي ستنهار وسيتحقق المشروع الصهيوني..
وكذلك العدوان الأخير على القضية الفلسطينية المتمثل بقرار الضم - حال نفذ - سينعكس سلباً وبشكل مباشر على وكالة "الأونروا" وخدماتها التي تقدمها لحوالي 1,100,000 لاجئ فلسطيني مسجل في الضفة الغربية بما فيها القدس، وستغلق حكومة الإحتلال مكاتب الوكالة فيها تحت مسمى "السيادة" كما أوقفت الخدمات التي كانت تقدمها "الأونروا" لحوالي 46 ألف مهجر فلسطيني داخل فلسطين المحتلة عام 1948 مع مطلع خمسينيات القرن، وسيمهد الطريق للمزيد من محاولات خنق عمل الوكالة وإضعاف دورها في بقية الأقاليم (لبنان وسوريا والأردن).
تعكس "الأونروا" موازين قوى دولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كجزء وكمكوّن أساسي مرتبط بكافة الملفات الفلسطينية، بقدر أن تكون هذه الموازين لصالح القضية الفلسطينية عموماً وبكافة ملفاتها بقدر انعكاسها إيجابا على الوكالة وقضية اللاجئين وجميع الملفات الفلسطينية والعكس صحيح، خاصة وأن الدول المانحة لا تقدم وجبات ساخنة وإن ما تقدمه يتقاطع مع مصالحها أولاً وأخيراً.
لكن وفق معادلة موازين القوى الدولية الإسترتيجية فإن الوضع مختلف تماماً ويسير باتجاه تقدم للملف الفلسطيني على المشروع الصهيوني المدعوم أمريكياً لا سيما في العشرة سنوات الأخيرة، فهيمنة إدارة واشنطن ونفوذها يتهاوى، وها هو ترامب في مأزق سياسي ويترنح للسقوط المدوي في الإنتخابات القادمة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ومع سياسة خارجية فاشلة، تارة يوقف دعم منظمة الصحة العالمية، أو وقف دعم محكمة الجنايات الدولية، أو حتى يريد وقف دعم منظمة اليونيفل العاملة في جنوب لبنان إن لم تتوافق مع رؤية الإدارة الأمريكية، ولن يستطيع دعم الكيان المحتل كما في السابق لانشغاله بملفاته الداخلية لا سيما على مستوى فشله في مكافحة جائحة كورونا وارتفاع أعداد المصابين المتزايد، وفي المقابل فإن الكيان الإسرائيلي إلى زوال أمام إقتصاد منهار وأمن غير مستقر وتناحر مستمر للأحزاب السياسية وهجرة معاكسة، أمام تقدم قوى عظمى كروسيا والصين والهند واليابان وايران وتركيا في الصناعات المختلفة والتكنولوجيا المتطورة والصواريخ الذكية، وهذا حتماً سيؤثر في موازين القوى وتأثيرها في معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني..
وفي المقابل فقد اندثرت أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" التي صدعوا بها رؤوسنا بعد نكسة العام 1967، وبأن شعار "حدودك يا إسرائيل من النيل الى الفرات" قد سقط، ومقولة أن "فلسطين كانت أرضاً بلا شعب استحقها "شعب" بلا أرض" قد انتهت وأن عبارة "الكبار سيموتون والصغار سينسون" مع النكبة سنة 1948 قد محيت، وبأنه لم يكن مسموحاً لأي دولة أو قوى عربية وغير عربية بأن تمتلك سلاحاً يمكن أن يهدد مستقبل وأمن الكيان الإسرائيلي المحتل منذ خمسينيات القرن الماضي أيضا قد انتهت..
بدأت هذه المعادلات ترى المزيد من حالة التفكك في محطات بارزة كيوم الأرض الفلسطيني مثلاً في 30 آذار/مارس سنة 1976 والإنتفاضة الأولى سنة 1987 والثانية عام 2000 ودحر للإحتلال الإسرائيلي عن لبنان في العام 2000 وعن غزة في العام 2005 وبدون قيد أو شرط، وبشكل أكثر بروزاً مع انتصار المقاومة في ثلاثة حروب في غزة (2008-2009 و 2012 و 2014) وامتلاكها لصواريخ تصل إلى ما بعد تل أبيب، فهل يجرؤ الكيان على إعادة إحتلال غزة مثلاً، إو إعادة إحتلال لبنان..؟! قطعاً لا..
وفق هذه المعادلات التي يجب استثمارها والبناء عليها فان مستقبل قضية اللاجئين ووكالة "الأونروا" مرتبط بمدى قوة وتأثير وجود القضية الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقدرة على تحقيق اختراقات نوعية وتثبيت دعم الجمعية العامة للوكالة ليس فقط على مستوى تمديد التفويض كل ثلاثة سنوات وهذا يشكل أهمية كبيرة على مستوى الدعم السياسي والمعنوي للأونروا ولكن أيضا على مستوى التخلص من الأزمة المالية المزمنة إلى حين دحر الإحتلال وعودة اللاجئين.
الإستهداف الصهيو-أمريكي الشرس للأونروا لا يعود فقط بما تمثل هذه الوكالة من قضية لاجئين فحسب، وانما بسبب أنها قضية سياسية ومبدئية من الدرجة الأولى، لها علاقة مباشرة بجوهر القضية الفلسطينية المتمثل بحق العودة، فقد ارتبط تأسيس وكالة "الأونروا" بعملية اقتلاع وطرد ثلثيْ الشعب الفلسطيني، وقد صادر الصهاينة بيوتهم المفروشة وأراضيهم المزروعة ومدنهم وقراهم المعمورة عام 1948 ليصبحوا في الخيام، وبهذا المعنى إنشاء وكالة "الأونروا" يُعبر عن المسؤولية السياسية للمجتمع الدولي تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي يفترض على الأمم المتحدة وحدها أن تتحمل مسؤولية تمويل المؤسسة التي أنشأتها إلى حين العودة، لا أن تتركها للدول المانحة التي يتأثر دعمها المالي بوضعها الإقتصادي أحياناً أو بموقفها السياسي المبني على المصالح حيناً آخر، لكن هي معادلة موازين القوى وتأثيرها.
فعلى سبيل المثال بتاريخ 13/12/2019 صوتت 167 دولة أعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح تمديد عمل وكالة "الأونروا" لثلاث سنوات جديدة حتى شهر حزيران/يونيو 2023 مما يشكل دعماً معنوياً وسياسياً ساحقاً للوكالة، لكن في المقابل لماذا هذه الدول نفسها لم تتمكن من إنقاذ الوكالة من أزمتها المالية المزمنة حتى الآن ؟، أوعلى الأقل تعويض المبلغ الذي أوقفته الإدارة الأمريكية عن الوكالة وقيمته 360 مليون دولار؟!.
وكذلك لم ينجح مؤتمر المانحين للأونروا والذي عقد في 23/6/2020 وغيره من المؤتمرات المشابهة في السنوات السابقة من إنقاذ "الأونروا" من أزمتها المالية المستفحلة واستطاعت في المؤتمر الأخير الحصول فقط على 130 مليون دولار على شكل تعهدات وليس نقدي من أصل 400 مليون دولار. كان باستطاعة 75 مشارك من دول ومنظمات غير حكومية تأمين المبلغ وبكل بساطة لو توفرت الإرداة السياسية لتلك الدول ولكن الذي يمنع هو الضغوط الأمريكية والكيان الاسرائيلي و"الحلفاء" المتواصل على الدول المانحة، مما يشل قدرات بعض الدول على أخذ دورها الكامل وفق سياسة المصالح وموازين القوى المقدمة دائماً على الأخلاق والمعايير الإنسانية.
وأيضاً لم يفلح لقاء اللجنة الإستشارية للأونروا الذي عقد يومي الأول والثاني من تموز/يوليو 2020 وبمشاركة أكثر من 30 من الدول الأعضاء والمنظمات الدولية وبمن فيهم الإتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية إلا بتجديد الدعوة إلى أهمية دعم "الأونروا" فقط، دون أية مخرجات عملية يمكن أن تحل مسألة العجز المالي غير المسبوق الذي تمر به الوكالة منذ تأسيسها في كانون الأول/ديسمبر 1949" وهكذا حصل مع لقاءات مشابهة للجنة الإستشارية في سنوات سابقة.
على أهمية الفعاليات التي تُقام في مختلف دول العالم للدفع وحماية القضية الفلسطينية عموماً وفي جوانبها المختلفة وهي مطلوبة ويجب استمراريتها وتطويرها .. لكن إسقاط وإحباط القرارات غير الشرعية التي مست وتمس الملفات الجوهرية للقضية الفلسطينية من تهويد للقدس وقانون القومية اليهودي ومحاولات شطب وكالة "الأونروا" وقضية اللاجئين وحق العودة وقرار الضم وغيرها..، لن يتحقق إلا باستثمار حالة رجاحة كفة موازين القوى على المستوى الإستراتيجي لصالح القضية الفلسطينية عموماً من خلال تفعيل المقاومة الشعبية في أراضي الضفة الغربية والقدس المحتلة مدعومة قانونياً وإعلامياً ودبلوماسياً وسياسياً وشعبياً عالمياً يشارك فيه الثقل الكمي والنوعي من فلسطينيي الخارج لا سيما اللاجئين من أبناء المخيمات والتجمعات، والعمل على استنزاف الإحتلال من خلال عصيان مدني طويل النفس وطويل الأمد، وإجبار الإحتلال على الإندحار من الضفة والقدس دون قيد أو شرط واستعادة الأرض المحتلة، وعلى التوازي دعم المقاومة المشروعة في قطاع غزة بكل الإمكانات والوسائل المتاحة، حينها ستتقدم القضية الفلسطينية أكثر في معادلة موازين القوى في الأمم المتحدة دبلوماسياً وسياسياً، وسينصت المجتمع الدولي لحقوق وعدالة القضية، وحتما ستتحقق اختراقات نوعية ستكون كفيلة وبالمزيد من الخطوات على دحر الإحتلال عن كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش، وتحقيق عودة أكثر من 8 ملايين لاجئ وطرد الغزاة المحتلين، ونزع الشرعية عن الكيان المحتل، ولتقفل حينها "الأونروا" أبوابها، وهذا ما يجب أن يعيه صاحب القرار الفلسطيني الرسمي أولاً.
*كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
[email protected]
أضف تعليق