في العالم 1873، وصلت الى فلسطين بالتنسيق مع الباب العالي، بعثة هندسية انجليزية لدراسة المياه ومصادرها الطبيعية من أمطار ومياه جوفية في كل أنحاء فلسطين. لم ترشح هوية البعثة اليهودية، لكن رشحت نتائج دراستها، والتي أشارت في حينه الى مخزونات مائية كافية لنحو ستة ملايين نسمة. وفي العام 1916 كانت الوكالة اليهودية هي الجهة الوحيدة التي إعترضت على تقسيمات سايكس بيكو، ليس فقط حين كانت التقسيمات ما زالت سرية، بل وبعد فضحها من قبل الثورة البلشفية في روسيا، أكتوبر 1917. ففي ربيع العام 1916 أوفدت الوكالة اليهودية وفدا الى باريس ولندن، للضغط على حكوماتها للمطالبة بتوسيع حدود فلسطين بالتقسيمات المذكورة، على أن تشمل مرتفعات الجولان وجنوب لبنان وصولا الى مدينة صيدا.
لم يكن القبول الصهيوني بقرار التقسيم عام 1947 قناعة استراتيجية باقامة كيان يهودي على جزء من أرض فلسطين، وانما كانت خطوة تكتيكية عقبتها خطوات مدروسة بدءا من حرب 1948 واحتلال مناطق واسعة من أراضي الدولة العربية المقترحة في نفس القرار، مرورا بالمجازر ونسف القرى وتهجير سكانها وتطهير مناطق الاحتلال عرقيا، وصولا الى استكمال احتلال كامل التراب الوطني الفلسطيني في عدوان حزيران 1967، وبمؤشرات واضحة بالايديولوجيا والممارسة العملية، الوصول الى أكبر ما يمكن من الأرض مع أقل ما يمكن من العرب.
تواترت الهجرة الاستعمارية اليهودية الى فلسطين من خلال ما وفره الاستعمار الانجليزي لكولونيالية محمية سياسيا وعسكريا ومدعومة اقتصاديا، لتستكمله اسرائيل فيما بعد بموجات كبيرة من الهجرة، كانت ذروتها هجرة يهود روسيا غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، تسعينيات القرن الماضي. لكن مع احتدام الصراع وانزلاق اسرائيل المتسارع نحو نظام أبرتهايد، ليس أنها فقدت عوامل جذبها ليهود العالم فحسب وإنما باتت تخشى الهجرة العكسية أيضا. وما أسمته المؤسسة الصهيونية "بوتقة الصهر" للتوليف بين عشرات الأعراق والثقافات القادمة مع مهاجريها، قادها بالضرورة الى استبدال الشعور القومي بالحس الديني، وعلى الأصح قادها لركوب الدين في خلق قومية مفتعلة ترتكز الى كثير من التعصب الذي يغذي ديمومة أسباب الصدام مع القومية الأصلانية صاحبة الأرض، وسحق مفاعيل المصالحة التاريخية والعيش المشترك، ولم تتجاوز "بوتقة الصهر" عناصر العنصرية الكامنة داخل مركبات المجتمع اليهودي، الا بقدر ما منتحته العنصرية البيضاء لليهود العرب من شعور زائف بالمساواة من خلال استقطابهم في قمع العرب.
لعنة الديموغرافيا وفشل التطهير العرقي بتفريغ البلاد من أصحابها، أدخل مفهوم "أكثر ما يمكن من الأرض وأقل ما يمكن من العرب" في أزمة، ستكون مفاعيلها بعد جيل أشد وأقسى من مفاعيلها الضاغطة الآن، فعمدت المؤسسة الصهيونية الى استبدال هذا المفهوم بصرعة أشد وطأة وأعني، "أكثر ما يمكن من العرب على أقل ما يمكن من الأرض". وإذا ما ترجمنا هذا المفهوم بلغة السياسة على أرض الواقع، يعني تجميع العرب في معازل عرقية "بانتوستانات" على غرار معازل السود في جنوب أفريقيا، لا سيما وأن اسرائيل الرسمية سارعت قبيل الاعلان عن صفقة القرن الى سن قانون القومية، وهو قانون مؤسس ليس فقط للفصل العنصري والأبرتهايد، وإنما مؤسس لصدام دموي مستدام بين الكتلتين القوميتين في البلاد، إذ يمنح حق تقرير المصير لليهود في كل فلسطين وينزع هذا الحق من الشعب العربي الفلسطيني.
في واقع الأمر ليس في برنامج الضم وصفقة القرن ما يفوق أسس المشروع الصهيوني والاستيطان الاستعماري في كل بقاع فلسطين، وما محاولة فرض الضم الا محاولة لفرض واقع الابرتهايد ومطالبة الفلسطينيين بالتوقيع على وثيقة الاستسلام، والحقيقة ان ما تقترحه صفقة القرن هو ترجمة لقانون القومية، وتعزيز سيطرة اسرائيل على كل فلسطين بمواردها وخيراتها، وحشر الشعب الفلسطيني في معازل عرقية منزوعة السيادة ومنزوعة الحياة ومنزوعة الكرامة، ما يعني أن اسرائيل إنصرفت من كل محاولات الحل والمصالحة التاريخية، وضربت بعرض الحائط ما قدمته حركة التحرر الوطني الفلسطيني من تنازلات، وأعادت الصراع الى مربعه الأول، صراع الوجود.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]