بشكل تقليديّ، المواضيع السياسية والأمنيّة هي التي تحسم الانتخابات في إسرائيل. عام 1992 تفوّق بيل كلينتون على جورج بوش بعد أن اطلق الشعار "الاقتصاد، يا غبي"، لاحقًا المصوتون في إسرائيل نصّبوا في موقع الملك من قام بإقناعهم بالشعار "الأمن، يا غبي". أكثر من هذا، مُنذ الأزل، التعامل مع المواضيع السياسيّة والصراع الإسرائيلي- فلسطيني كان الأساس في تعريف هوية المُعسكرات السياسيّة في إسرائيل.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة نشهد تغييرًا: الموضوع السياسي يختفي تدريجيًا من النقاش في الحيّز العام، ويختفي أكثر في فترة الانتخابات. المرشحون، في غالب الأحيان من المركز أو اليسار، يتهربون منه وكأنه نار. أكثر من ذلك، يقومون بفعل أي شيء لذكره بصورة سطحيّة جدًا خلال التصريحات. بيني غانتس، بعد وقت قليل من خلعه الزي العسكريّ، صرّح أنّ هنالك حاجة إلى التوصل إلى تسوية سياسية مع الجانب الفلسطيني وإلا "سنستمر في الغرق بالجنون"، لكن وبعد دخوله معترك السياسة، قام بإخفاء مواقفه ورفض الالتزام بأي فكرة حيال الموضوع السياسي. فعليًا، غانتس خطى نحو رئاسة الحكومة دون أنّ يطّلع الجمهور على مواقفه في المواضيع السياسيّة. تقريبًا، كل مرشح سابق قبل غانتس حاول المضي في الانتخابات بطريقة مناورة في المجال، لم يقم أحدًا منهم برفع العلم السياسي عاليًا أو بارزًا بصورة كافية.
لهذا، يوجد سبب واحد فقط: نتنياهو، في سنوات توليه المنصب، نجح في تحويل القضية الفلسطينية إلى "غير المهمة". لربما كان ذلك نفتالي بينت الذي شبه الفلسطينيين كـ "شوكة في المؤخرة"، لكن حقوق الطبع لفكرة هامشية القضية الفلسطينية كانت لنتنياهو. الهدوء النسبي والبعد الفعلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين ساعدت نتنياهو في تحويل استراتيجية "إدارة الصراع" لسياسة إسرائيلية رسميّة، حتى وأنه وفي الطريق الالتفافيّة: نستمر بالادعاء اننا نرغب بالسلام إلا أننا سنعمل أقل جهد لتحقيق ذلك، دون الخروج إلى مغامرات التي ستكلفنا دمًا باهظًا، وستؤدي إلى وقف التنسيق الأمني مع الفلسطينيين، أو إلى اثارة غضب المجتمع الدولي، وهكذا طالما بقي الوضع كما هو عليه، سيستمر بناء المستوطنات وسيستمر الاحتلال. المنطق الحديدي للاحتلال: من أجل تحويل المؤقت إلى ثابت، على المؤقت التأكيد الدائم على أنه مؤقتًا.
تذّكُر المحادثات بين أولمرت وأبو مازن، قد تكون نقطة كافية لفهم التغيير الذي قام به نتنياهو، حتى طقوس المفاوضات، المباحثات الأولية وتفجر المفاوضات، التي ميزت النصف الأول لأول مرة تولى فيها الرئاسة، تحوّلت إلى منسيّة.
في الوقت الذي قامت به الحكومة بترسيخ مبدأ "إدارة الصراع"، نسي الجمهور العام الموضوع تدريجيًا. مقابل ذلك، بدأت أجزاء كبيرة من المعارضة ايضًا بتقويض دعمها إلى حل الدولتين ومعارضتهم لفكرة "إدارة الصراع". أكثر من إيران، أكثر من التعاون والتعايش مع حكم ترامب وأكثر من الاهتمام بخلق اهتمام شخصيّ له، تحوّل سحر إخفاء المشكلة الفلسطينية إلى أهم إنجازات نتنياهو، عليه حتى وأن كان مخطط الضم المتهور الذي ينوي تطبيقه في الشهر القريب يظهر وكأنه محاولة إلى حفظ إرثه إلا أنه فعليًا من المحتمل أن يؤدي إلى تقويض أرث نتنياهو.
من هذه الناحية، مسؤولو مجلس المستوطنات "يشاع" على حق بمعارضتهم تطبيق مخطط "ترامب". اليوم، دون تصريحات أو إعلانات سياسية، تصوّرهم السياسي تحقق على أرض الواقع. هم يقومون بفعل ما يحلو لهم في الضفة الغربية- يسيطرون، يبنون، يوسعون- في الوقت الذي يبقى فيه الفلسطينيين دون أي حقوق. من جهتهم، تقبُل مخطط ترامب من الممكن أن يؤدي إلى ضرر في تطور منظومة المستوطنات. بكل الأحوال، المخطط سينتهي بإقرار قيام دولة فلسطينية، ضمن المخطط ذاته أو كرد فعل له.
دون التقليل من الخطورة التي تعكسها خطوة الضم، يوجد هنا فرصة: بعد سنوات من الهدوء التام، الموضوع الفلسطيني سيكون في صلب الأجندة مجددًا. الضفة الغربية، الاحتلال، الفلسطينيين والمسار السياسي سيعودون إلى تصدر الأخبار بعد سنوات من الهامشية. على ما يبدو الرغبة في ابعاد الفكر الجماهيري عن المحاكمة المرتقبة لنتنياهو والمصلحة في الحصول على دعم جماهيري، تدفع نتنياهو إلى العمل بخلاف الاستراتيجية التي عمل على ترسيخها. حتى اليوم كان مصلحة نتنياهو بتقليل المشكلة الفلسطينية واسكات النقاش عليها. هو يعي أن طرح القضية الفلسطينية مجددًا للنقاش سيلاقي له الدعم من المؤسسة الأمنيّة، والتي تدعم التسوية السياسية مع الفلسطينيين وتحذّر من مخطط الضم.
حاليًا، ليس نظريًا فقط، لا يوجد أي مناص من إدارة النقاش مجددًا على مستقبل الأراضي المُحتلة. أجزاء كبيرة من المجتمع لا تعرف ماذا يحدث في مكان ليس بعيد عنهم، كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين وجهتنا. يوجد هنا فرصة فريدة لفتح مجال للحوار بالذات على هذه المواضيع، التحدث بصوت عالٍ على الإسقاطات الهادمة للضم، وليس أقل أهمية لذلك- عرض بديل للرؤيا الخطرة لنتنياهو.
مغامرات الضم تؤكد مرة أخرى: خلف الطرح الذي تقوده الحكومة، ووفقه كل ما سيء للفلسطينيين جيد لنا والعكس، لا يوجد أي شيء عدا استقطاب ناخبين. لا يوجد أي مخطط أو صفقة ستغير الحقيقة الأساسية- إسرائيليون وفلسطينيون يعيشون ومستمرون بالعيش هنا سوية. لكي نصل إلى مرحلة ازدهار، عليهم الوصول إلى هذه المرحلة، والعكس.
تصوير: يحيئيل يناي.
[email protected]
أضف تعليق