الحلقة الرابعة:- من سيحكم أمريكا... عندما تحكم أمريكا النظام العالميّ الجديد؟
معاينة للأجندة السريّة وراء أجندة كهنة الحرب الكبار.-
يمكن اعتبار الأمم المتّحدة من الناحية الفعليّة شبحًا من الماضي. لقد تمّ تحييد الأمم المتّحدة وتهميش دورها لكي تلقى في النهاية فوق كومة القمامة، ولو بشكل مؤقّت، على يد الذين كانوا يرون في المنظّمة الدوليّة الأداة التي ستحقّق الهيمنة العالميّة.

أمّا اليوم، فإنّ الإمبرياليّين قد اختاروا رسميّاً تنصيب العمّ سام ( الولايات المتّحدة) بمهمّة شرطيّ العالم ، أو إذا شئنا أن نستخدم مصطلحهم الأكثر أكاديميّة " مركز المنظومة الدوليّة الجديد" والهدف هو تحقيق " عالم يظهر بمظهر أمريكا ، وبذلك فإن هذا العالم سيكون آمنًا بالنسبة للجميع".

إلّا أنه وبرغم لغة الخطاب هذه التي قد تحلو لكثير من الوطنيّين (أو الذين يتصوّرون أنهم وطنيّون) من الشّعب الأمريكيّ، فإنّ الأمرَ ليس بتلك السّهولة. إن هذه الأجندة تحمل في طيّاتها أكثر مما هو بادٍ للعيان.
إنّ ما يمكن وصفه بالخطّة الكبرى للنظام العالميّ الجديد في ظلّ الدور الأمريكيّ الإمبرياليّ الجديد، قد ظهرت بشكل صريح في ورقة سياسة نشرتها
Journal of International Security Affairs
مجلّة شؤون الأمن الدوليّ ، وهي مجلّة تصدر عن المعهد اليهوديّ لسياسة الأمن القوميّ جنسا.

وهذا المعهد الذي لم يكن معروفًا سوى على نطاق ضيّق ، أصبح الآن مشهورًا عنه أنه أكبر قوّة محدّدة وقفت وراء السياسة الخارجيّة في حكومة بوش. لذلك فإن أي شيء يظهر في منشورات جنسا فاعلم أنّ له وزنًا ثقيلًا.

كاتب تلك الورقة هو ألكسندر جوفي ، وهو أكاديميّ مؤيّد لإسرائيل، نشر العديد من الأبحاث والمقالات في مطبوعات جنسا، وبكونه قد أعطي الكثير من المتّسع لشرح نظريّاته ، فإن ذلك يعكس مدى القبول والتقدير التي تتمتّع بها وجهات نظره.
وكان عنوان ورقة جوفي التي تألّفت من جزأين هو " الإمبراطوريّة التي لا تجرؤ على ذكر اسمها" ويعترف جوفي في دراسته بصراحة أن " أمريكا إمبراطوريّة" ويعلن بالإيجاب بأن هذا شيء حسن جدّا.

ويقول جوفي بأنّه عندما تجرّأت الأمم المتّحدة على تحدّي الصهيونيّة، كانت تلك اللحظة نقطة زوال الأمم المتّحدة من عقول الدوليّين internationalist)المؤمنين بالمذهب الدوليّ). ويتابع جوفي: " إنّ نهاية الجمعيّة العامّة كجهاز ذي اعتبار من أجهزة المنظّمة يمكن إرجاعه إلى القرار المشؤوم الذي صدر عن الجمعيّة عام 1975 وساوى بين " الصهيونيّة والعنصريّة". ويدّعي مؤلف الجنسا بأنه يجب على العالم أن يكون ممتنًّا لأن الأمم المتّحدة قد حيّدت ، وتحوّلت إلى مهزلة لكي تنتهي إلى الشلل". وهو بالطبع يشير إلى موقف الأمم المتّحدة والذي يراه الصهاينة وحلفاؤهم في حركة الإمبراطوريّة العالميّة موقفا مؤذيا.

ونتيجة لوضع الأمم المتّحدة على الرفّ كأداة لحكم العالم ، يكتب جوفي: " نحن الآن نمتلك الفرصة ، والمسؤوليّة لنبدأ من جديد" إلا أنه يحذّر من ظهور الاتحاد الأوروبيّ كمصدر خطر يهدّد حلم الإمبراطوريّة العالميّة.

ويدّعي كاتب الجنسا أن الإتحاد الأوروبيّ يشكّل " النظرة البديلة عن المجتمع الدوليّ، هذا الإتحاد على حسب قوله هو " النظرة المضادّة والمعاكسة للإمبراطوريّة الأمريكيّة ".

وبحسب رأي الكاتب الصهيونيّ، فإن المشكلة الكبرى مع أوروبا والاتّحاد الأوروبيّ هي أن " الثقافة تبقى جوهر المشكلات الأوروبيّة" . فالوطنيّة مذهب ولد في أوروبا وكذلك كلّ ما تفرّع عنه من مذاهب فتّاكة كالفاشيّة والشيوعيّة".( ملاحظة: يبدو أن الكاتب جوفي وهو من غلاة المناصرين للوطنيّة الإسرائيلية يعجز عن رؤية انعدام المنطق في تهجمه على وطنية الآخرين - ولكن مرة أخرى ، يبدو أن الاستقامة والشرف لا تعد جزءا مهمّا من وجهة النظر الصهيونيّة) .

ويشكو جوفي من أنه وبرغم " أن الإمبراطوريّة الأوروبيّة هي من الناحية النظريّة إمبراطوريّة متعدّدة الثقافات. إلا أنها في الحقيقة تهيمن عليها سياسيّا وثقافيّاً فرنسا واقتصاديّاً ألمانيا". إن أوروبا اليوم " مدفوعة بنوع من الشّعور بالذنب وتأنيب الضمير فيما بعد عهد الاستعمار فقامت بفتح الباب على مصراعيه أمام جميع الأفكار. وفي المستويات المشؤومة سمحت بل وأسبغت الشرعيّة على مجموعة كبيرة من الأفكار والتصرّفات المشوشة ، وتحديدًا معاداة الساميّة ومعاداة الولايات المتّحدة ، وقطاعًا عريضًا من نظريّات المؤامرة".

( إن ما يسمّى " نظريّات المؤامرة" التي أثارت حفيظة المنظر الصهيونيّ هي تلك التي تتجرّأ على تحدّي " الرواية الرسميّة " لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهو مشتعل حنقًا لأن هناك ملايين من النّاس في أوروبا وفي العالم الإسلاميّ - عدا عن الموجودين في أمريكا -يطرحون تساؤلات حول عِلم إسرائيل المسبق / أو مشاركتها في تلك الاحداث: جريس بولس.(

وعلى أيّ حال، فإن ما وصفه جوفي " النوع الآخر من الدوليين الليبراليين هو ما تفضّله الحركة الصهيونيّة ويحدّدها جوفي بقوله:
" إن الإمبراطوريّة الأمريكيّة لا يوجد لها من الناحية العمليّة أي منافسين. وهدف الإمبراطوريّة الأمريكيّة في القرن الحادي والعشرين ليس هو السيطرة الإقليميّة أو استغلال الثروات الطبيعيّة ، بل هو القيادة السياسية والاقتصاديّة التي تعزّز وتحمي المصالح الأمريكيّة ، والتي تكرّس تقدّم ورفاهيّة كل الأمم. وبالنظر إلى تاريخنا ومبادئنا وقيمنا ، فإن هذا المستقبل يكمن في الإمبراطوريّة الأمريكيّة بطريقة تجعل منها مركز نظام ديموقراطي دوليّ. وفي المحصّلة النهائيّة سيكون الحلّ الوحيد لتحقيق الاستقرار والازدهار في العالم هو إيجاد نظام عالميّ مؤسس من الناحيتين الهيكليّة والأخلاقيّة على نمط الاتحاد الأمريكيّ - ولايات (دول) شبه مستقلّة تتمتّع بحكم ذاتي غير كامل محكومة ومرتبطة بنظام علماني ( لا ديني) ليبرالي ديموقراطي ، بحيث يكون للدول الخاضعة له حقوق ويترتّب عليها مسؤوليّات والتزامات في إطار شبكة ليبراليّة ديموقراطيّة علمانيّة ( لا دينيّة) بحيث تتمتع هذه المنظومة بمؤسسات للمراقبة والمساءلة وحفظ التوازن على أن يكون هذا النّظام مؤسّسا على حكم القانون ومتسامحًا مع القيم التعدّديّة."

وفي الجزء الثاني من مقالته التي نشرت في شتاء 2004 من مجلّة جنسا، تابع جوفي عرض أفكاره متوسّعًا في دعوته لما وصفه ب" الإمبراطوريّة التي تشبه أمريكا".
ومن الغريب حقّاً ان جوفي يتحدّث بمنتهى الصّراحة حول قيام الولايات المتّحدة بحملات عسكريّة توسعيّة في إفريقيا بعد أن تكون قد فرغت من احتلال الشّرق الأوسط والعالم العربيّ وإليك ما يقول:

" إنّ الشروط التي يمكن بموجبها للولايات المتّحدة وحلفائها التدخّل في الدول الإفريقيّة لإعادة النظام والاستقرار هي شروط ليست واضحة تماما. ما هو الحدّ الأدنى لشرط التدخّل العسكريّ ؟ ما هي الإجراءات والنتائج؟ من سيقاتل ومن سيدفع الفاتورة؟ إن إعادة تعمير إفريقيّة يتطلّب التزامات طويلة الأمد وتكاليف باهظة هي من النوع الذي لا يمكن لأحد أن يتكفّل به سوى إفريقيّة نفسها. وهذا يعني ، أن الأمر ربما يتطلّب سيطرة اقتصاديّة أمريكيّة إلى جانب السيطرة السياسيّة والثقافيّة. إن الاستعمار دائما يتطلّب أن تدفع مصاريفه بما يوازي كل مرحلة من مراحله، وهذا غير جيّد. والسؤال هو هل تستطيع إفريقيّة أن تدفع الثمن( أم أنها لا تتحمّل أن تدفع الثمن) وهل تملك الولايات المتحدة العزيمة للقيام بتلك المهمّة."
وطبعا لم تكن إفريقية الهدف الوحيد في خطط جوفي ومن يفكّر على طريقته ( وهذه هي حقيقتهم بالضبط ، بغض النظر عما إذا كان ذلك فيه بعض المبالغة لدى بعض الناس) . والحقيقة أن جوفي يتحدّث عن اجندة عالمية واسعة تتجاوز حدود القارّة الأمريكيّة.
وفي النهاية ، يكشف لنا جوفي عن النوايا الحقيقية لأولئك الذين يستخدمون القوة العسكريّة الأمريكيّة كأداة لتنفيذ أجندة أكبر. فيقول: " يجب إحداث ترتيبات جديدة تحت القيادة الأمريكيّة لتقديم بديل للدول التي أبدت استعدادها للقبول بالحقوق وتحمل الالتزامات" ويحلم جوفي بأمم متّحدة أعيد تشكيلها تحت القوّة الإمبرياليّة الأمريكيّة. ويتوقّع في النهاية احتمال قيام حكومة عالميّة ، فيكتب:
" وبعد فترة من الفوضى والغضب التي من شأنها أن تزيد من حدّة الوضع الرّاهن، فإن من المحتمل في جميع الأحوال، أن تجبر الدول والمؤسسات القائمة حاليا على التغيير. وبدلا من النادي الذي يفتح أبواب عضويّته أمام كل من هب ودب ، فإن الأمم المتّحدة في القرن الحادي والعشرين يمكن في يوم من الأيام وبطريقة أو بأخرى، أن يعاد تشكيلها لكي تصبح مجموعة حصريّة تقتصر العضويّة فيها فقط على الأشخاص الذين توجه إليهم الدعوة بالدخول من بين الدول الديموقراطية الحرّة التي تتبنى قيما متشابهة. أو تلك التي تستبدل بدول من ذلك النوع. وهذا اليوم المنشود ربما يستغرق عقودًا لتحقيقه".

وحتى لا يكون هناك أدنى شك في أنه يتحدّث عن حكومة عالمية، يختتم جوفي بحثه بالقول: " إن أفضل طريقة للحفاظ على الإمبراطوريّة الأمريكيّة هو عن طريق التخلّي عنها . إن تمهيد السبيل أمام حكم عالمي لن يتحقّق إلا بقيادة أمريكيّة وبمؤسسات تقودها أمريكا من النوع الذي تم بسطه في هذا البحث".
إذا ، وعلى الرغم من لغة الخطاب الرنّانة حول " الديموقراطية" ، فإن المحصّلة النهائية على حد تعبير المنظر الموالي لإسرائيل هو استخدام القوة العسكريّة الأمريكيّة من أجل تحقيق أجندة ( سريّة) أخرى مختلفة تمامًا. وقد يجد كثير من الوطنيين المخلصين من بين أفراد الشعب الأمريكيّ والذين يعشقون التلويح بالعلم الأمريكيّ ويؤيدون فكرة الإمبراطوريّة الأمريكيّة، هذه المفاهيم التي يتحدّث عنها جوفي تختلف كثيرا عما يتصوّرونه.

ولكن هنا، وعلى صفحات مجلّة موالية للصهيونيّة، فإننا نكتشف حقيقة " القصّة خلف القصّة" . فهي لا تمتّ إلى" أمريكا قويّة" ولا حتّى إلى أمريكا نفسها.
إن الولايات المتحدة - على قوتها- هي في حقيقة الأمر مجرد " جندي" في اللعبة ، يتم تحريكها بطريقة همجيّة هنا وهناك ضمن خطّة للسيطرة على العالم على يد نخبة قليلة تعمل خلف الكواليس.

وفي النهاية، فإن هذا يكشف لنا عن حقيقة كهنة الحرب الكبار وعن حقيقة أجندتهم، وليس في الأمر لغز.

وما بقي أن يتحدّد هو: ما الذي سيفعله الشعب الأمريكيّ وبقيّة الوطنيّين المخلصين من الأمم حول المعمورة.

والسؤال هو: هل سيقرّر العالم أخيرًا انه قد حان الأوان لإعلان الحرب على كهنة الحرب الكبار؟
بقلم: جريس بولس.
كفرياسيف

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]