قضى الفنّان والرّاقص أيمن صفيّة غرقًا قبل عدّة أيّام بالقرب من مدينة حيفا. استمرّت جهود البحث عنهُ طيلة أربعة أيّام، لم تهدأ خلالها شبكات التّواصل الاجتماعيّ وعجّت بمنشورات تقشعرُّ لها الأبدان، بصلوات لعودته سالمًا وبمقاطع فيديو مُبهرة من حياة الفقيد. بعد العثور على جُثّته، نعاهُ كبارُ الفنّانين والناشطين من الدّاخل الفلسطينيّ، مؤكّدين أنّ أيمن صفيّة كان شابًّا فذًّا ومُمّيّزًا – مُرهف الإحساس، موهوبًا وصاحبَ اسمٍ عالميّ. هذا بالإضافة إلى انتمائه لمجتمع الميم، وَكَمَن تحدّث عن جنسانيّته وأبرزها في كُلّ مقابلة، رقصة أو حركة أدّاها.

أيمن، ابن التّسعة وعشرين ربيعًا من بلدة كفر ياسيف الجليليّة، كان مُحبًّا للنّاس والحياة. استطاع أن يجمع حولَه مجموعة من الأصدقاء والمُعجبين، ولم يكُفّ عن الرّقص وعن بناء الجيل القادم من الرّاقصين في المُجتمع العربيّ. درس صفيّة الرّقص في أكبر المعاهد في لندن إلى جانب مشاركته في عروض على منصّات عالمية. من منظور النّخبة الثّقافيّة والفكريّة، كان صفيّة مؤشّرًا لمُستقبل الثقافة الفلسطينيّة الحُرّة والمُعاصرة. وعلى قدر الرؤية، هكذا هو عِظمُ الفاجعة وعمق الألم.

أُطلِقت نداءات الاستجداء والدّعم من طرف أصدقاء صفيّة وملأت حيّز شبكات التّواصُل، فحضر الصّيّادون بقواربهم، والغوّاصون بمُعدّاتهم ومالكو الدّرّاجات المائيّة والطائرات المُسيّرة عن بعد، كما انضمّ لجهود البحث كلُّ من له دراية بهذا البحر الشّماليّ الّذي ابتلع أيمن – جُلُّهم من حيفا، عكّا، كفر ياسيف وجسر الزرقاء. انضمّت أعداد غفيرة من المتطوّعين بحثًا عن الرّجل الّذي راقص الهواء بخفّة حركته، وقد بات الآن رهينةً لدى لبحر وأمواجه.

في خضمّ عمليّات البحث، أعرب الكثيرون عن غضبهم من أداء الشّرطة، الّتي لم تبذل جهودًا كافية باستعمال المروحيّات أو الطّائرات المُسيّرة والغوّاصين لأجل البحث عن الشّاب المفقود – كما هُوَ متوقّع منها أن تفعل. أمام المئات من المتطوّعين الّذين توافدوا على منطقة الشّاطئ في مسعًى لإيجاد أيمن، كان هناك التّقاعس وقلّة الحيلة من طرف الشّرطة، ما أثار غضب الكثيرين، وسُرعان ما عاد موضوع التّفرقة بين حياة الإنسان العربيّ والإنسان اليهوديّ إلى واجهة الحديث.

في وضع كهذا، كانت الطّريق قصيرة لإجراء المقارنة ما بين الموت المأساوي لأحد المشاهير اليهود، وموت أحد المشاهير العرب. والظّاهر، هو أنّه في دولة إسرائيل يجب عليك أن تختفي في مكان مُعيّن وأن تحمل اسمًا مُعيّنًا كي يلتفت أحد ما باتّجاهك. أيمن صفيّة ليس بمكانة "أمير فريشر جوتمان" (אמיר פרישר גוטמן)، الفنّان الّذي قضى أيضًا غرقًا قبل عدّة سنوات. صورة أصدقاء عرب في حفلة على شاطئ البحر، لا تجذب الأنظار كصورة لعائلة من النّجوم والمشاهير اليهود يحتفلون في البحر.

لم نكُن بحاجة لحدوث هذه المأساة كي نتذكّر بأنّ حياتنا لا تساوي الكثير في هذه الدّولة. وللصّدق، استغربتُ من الّذين ثارت مشاعرهم من حقيقة أنّ شابًّا عربيًّا يغرق ولا تكترث السُّلُطات لأمره كما لو كان يهوديًّا.

وفي ذروة التّوتُّر خلال عمليّات البحث، وبينما كانت الأنامل تنتحب على شبكات التّواصُل، لم أتجرّأ على الكتابة عن النّفاق في المجتمع العربيّ – الّذي يُجنّد الحشود بحثًا عن رجل معروف تعرّض للغرق، ولا تُحرّك ساكنًا لأجل البحث عن امرأة بدويّة فُقِدت آثارها في صحراء النّقب.
إذا كان اختفاء فتاة مجهولة - حُسِمَ مصيرها بأيدي قتلة من أبناء جلدتنا – لا يُخرجُ هذا الكمّ من المتطوّعين للبحث عنها ولا يُثيرُ فينا مشاعر الإنسانيّة، فلماذا نأتي باللّوْم على الشُّرطة؟

+++

نحن، المواطنون العرب، لا زلنا نعلّق آمالنا بدولة قانون القوميّة، نُصدم كلّ مرّة من جديد أمام حادثةٍ عنصريّة جديدة. ولكنّ السّؤال الّذي يطرح نفسه: لماذا بحقّ السّماء نبحث عن المساواة ونرجوها من سلطة غير معنيّة ولا مبنيّة أصلاً لكي تمنحنا إيّاها؟

بدلاً من العمل على تغيير المنظومة، نكرّر الخطأ ذاته مرّةً تلو الأخرى بمطالبتنا بالحقوق المتساوية، وبطلب يعتريه اللّطف بِنَا حينًا والغضب في حين آخر، بالحصول على ما لا تؤمن الأغلبيّة باستحقاقنا له.

النّهاية المأساويّة لأيمن صفيّة سلّطت الضّوء على أمر آخر. فبالإضافة للمطالبة بتكثيف عمليّات البحث والنّقد المستمرّ لأداء الشُّرطة، ظهرت هناك انتقادات لاذعة جدًّا على التغطية الإعلاميّة البائسة من قبل وسائل الإعلام العبريّة. في نهاية المطاف نجح هذا التّوجه في إحداث تغيير، بعد يومين من اختفاء أيمن، دخل الخبر إلى حيّز الشّريط الإخباريّ باللغة العبريّة. ما الّذي جعل الكثير من النّاشطين مُهتمّين بأن يتعاطى الإعلام العبريّ خبر اختفاء فنّان فلسطيني مثليّ وأن يجلب الخبر إلى عقر غرفة الجلوس في البيوت اليهوديّة؟ منذ متى تهتمّ النّخبة الفنّيّة والثّقافيّة الفلسطينيّة النامية في أزقّة البلدة القديمة في حيفا، بالاستيلاء على الاستوديوهات المُكَيّفة للقنوات العبريّة؟

لرُبّما عميقًا في أنفسنا نبحثُ عن شيء من الاعتراف بكينونتنا، أو عن شيء من الاحترام والتّقدير للمجتمع العربيّ في إسرائيل، كشكل من أشكال الخروج الصّاخب والجماعيّ من الخزانة. نريد ان نقول للمجتمع الإسرائيلي بأنّنا نحن أيضًا لدينا فنّانون كبار وصل اسمهم إلى العالميّة، من مجموعة الميم، وبأنّ غالبيّتنا تستطيع أن تُحبّهم، أن تُقَدِّرَهُم وأن تتألّم عند رحيلهم فجأة.

لو أنّ صفيّة تعرّض للاعتداء الجسديّ أو القتل من قبل أحد أفراد عائلته بدافع كراهيّة المثليين، لكانت التّغطية الإعلاميّة مختلفةً تمامًا في الحديث عن المُجتمع العربيّ العنيف والوحشيّ. هذا ما حصل فعلاً مع الفتى من مدينة طمرة، والّذي تعرّض للطّعن في تل أبيب. لكنّ صفيّة حطّم جميع الصّور النّمطيّة الإسرائيليّة عن معاملة المنتمين لمجموعة الميم، والّذين يجدون ملجأً في حضن المنظّمات المثليّة اليهوديّة الرّؤوفة، فهم المُلاحَقون من قبل كارهي المثليّين في قراهم العربية المتخلفة ، أليس كذلك؟.

لم يدخل أيمن صفيّة في هذا التّصنيف. عمليًّا، أُجريَت معه مقابلة في البرنامج الّذي عملت عليه المخرجة ابتسام مراعنة "بلا مؤاخذة" في هيئة البثّ الإسرائيليّة "كان"، وذلك في نطاق حلقة تناولت موضوع المثليّة في المجتمع العربيّ، وكان صفيّة قد تحدّث عن عمليّة طويلة ومثيرة مرّ بها وعن احتضان عائلته له. شاهدت الحلقة مرّة أخرى وانفعلتُ بشدّة حين رأيت المقطع الّذي يتحدّث فيه أيمن عن مكالمة هاتفيّة مع والده، سأله أبوه فيها "بابا بدكاش ترجع ع البيت؟". كان الحُبُّ الّذي حصل عليه أيمن من عائلته أكبر هديّةٍ تلقّاها أيمن.

لم يكن أيمن شابًّا عربيًّا فرّ إلى تل أبيب بسبب هويّته الجنسيّة ليحتمي ببلد الانفتاح، بل كان شابًّا عربيًّا علّم الكثيرين بأن يقبلوا أنفسهم، أن يتواصلوا مع جسمهم وأن يحبّوا الحياة بكلّ تفاصيلها وحواسّها الإنسانيّة ما استطاعوا إليها سبيلا.

ووريَ أيمن الثّرى في مقبرة إسلاميّة، وتمّت الصّلاة على جثمانه في ساحة مسجد وبيت العزاء فُتح في ساحة الكنيسة في بلدة كفر ياسيف، وهي إشارة أخرى للتّعدّديّة والتّنوّع والتّسامُح الدّيني الّتي روّج لها هذا الفنّان الشّاب والواعد في حياته. كان مُرادُ رفاقه والنّاشطين في شبكات التّواصُل أن بيقى هذا من الفقيد، وأن يُبرزوه للجمهور الإسرائيليّ ساعة حدوثه.

من الممكن إذًا أن نفهم مشاعر الغضب والإحباط عقب هذه الحادثة وأمام تعامل المُجتمع الإسرائيليّ معها، وهو الأسلوب نفسه في السّواد الأعظم من وسائل الإعلام الرّسميّة في كيفيّة تغطية ما يجري في المجتمع العربيّ، وهي تغطية ترتكز أساسًا على ما يُحضره مراسلون يهود ومحلّلون عسكريّون إلى الشّاشات. هذه المشاعر ليست بالجديدة، وهي تنبع من عمليّة مستمرّة لنزع المصداقيّة عن المجتمع العربيّ وتشويه سمعته من قبل السّلطات، الّتي بدورها يُحرّضُ مندوبوها ورؤساؤها ليل نهار ضدّ العرب.

في المجتمع العربيّ، كما هو الحال في المجتمع اليهوديّ، يوجد الكثير من الظّلاميّين والكارهين للمثليّين والمثليّات – ولحسن حظّنا هم ليسوا في سُدّة الحُكم (إلى اليوم) وليست لديهم الكثير من مراكز القُوّة، والّذين رأينا في الأيّام الأخيرة حركة مباركة بتجاهلهم وإسكاتهم. رُبّما عوضًا عن مطاردة الاعتراف من قبل مؤسّسة يهودية تروق لها علنًا روائح التّمييز والفاشيّة، يجدُر بنا أن نركّز على الرّسالة الّتي دعا لها أيمن في محياه، أن نركّز على ما كان هو كإنسان والاعتراف الدّوليّ الّذي حظي به – والّذي ينوي أصدقاؤه أن يبقوه مستمرًا بعد مماته – وأن ننظر في الدّاخل، وأن نُبرِزَ أيمن ونفخر به من منطلق موقف القوّة والصّمود الاجتماعي، إلى جانب النّضج المدنيّ والسّياسيّ.

ليست لدينا في المجتمع العربيّ أيّ حاجة بأن نبرز جوانبنا "الجميلة" هذه لأحد كائنًا من كان، وعلى رأسهم الأغلبيّة العدائيّة والحاكمة. الحاجة الحقيقيّة هي أن نبرز هذه الجوانب وأن نمضي بها قُدُمًا في أنفسنا وبداخلنا. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]