وصلنا في عالمنا العربي إلى الحضيض في تقبل الاختلاف، وأصبح التعصب للرأي والتشدد الفكري سمة مجتمعاتنا العربية. فما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الانغلاق الفكري وعدم الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى؟ ولماذا تسير الأمة العربية في اتجاه مختلف عن باقي الأمم التي تزداد انفتاحا على الثقافات الأخرى في الموسيقى والشعر والفن والرسم والنحت وفي الرياضة والصناعة وتبادل العلوم والابتكارات التكنولوجية؟
لا شك أن الوضع العربي الذي يزداد سوءا كل عام منذ حوالي مائة عام، وعشناه أنا وأبي وجدي، يبعث على اليأس والإحباط والغضب. فجميع الأمم تتقدم وتخرج من ظلمتها إلا العرب يزداد وضعهم ظلمة ورداءة. وربما نحن بحاجة لمراجعة شاملة للمنظومة الفكرية الشاملة التي تحكم المجتمعات العربية اليوم؛ كيف تتغذى فكريا ومن يغذيها وأين تقف من باقي الأمم. وبات من المهم لنا مراجعة أسباب عدم تقدمنا وعدم نهضتنا وبقائنا في ذيل الأمم. وربما هذا الوضع السيء هو الذي يدفعنا إلى الانطواء والانغلاق وعدم الانفتاح على باقي الأمم في شتى المجالات. ناهيك عن الأذى الذي لحق بالأمة العربية نتيجة الاستعمار الغربي والحروب التي خلّفت الدمار والمآسي والفقر وعدم الاستقرار. فكيف لنا أن نطلب من المظلوم أن يتقبل ثقافة الظالم؟ كيف لنا أن نطلب من الفقير أن يحترم ثقافة الغني الذي يسرقه؟ كيف لنا أن نطلب من الشعوب العربية احترام الديمقراطيات الغربية وهي ذاتها التي تدعم القوى الدكتاتورية في العالم العربي. لا شك أنه ليس من السهل على المواطن العربي تقبّل أي شيء من العالم الغربي بسبب الاستعمار والاحتلال والحروب الدموية التي ما زالت الشعوب العربية تدفع أثمانها. وربما هذا يفسر سبب قبولنا النسبي للأخلاق والسلوكيات اليابانية، حسب ما تعرض على البرامج التلفزيونية، حيث أنها لم تكن قوة استعمارية في تاريخ المنطقة العربية. إلا أنه وبسبب البعد الجغرافي والاختلاف الثقافي والحضاري الشاسع، لا تبدو الأمثلة الآسيوية قابلة للاستنساخ بسهولة في عالمنا العربي وتبقى الفجوة واسعة.
ولهذا لم يكن أمام العرب إلا العودة إلى التاريخ علّهم يجدوا ضالتهم ومبتغاهم، لأن قياداتهم الشعبية أقنعت الشباب العربي أنّ الحاضر لا يبدو أنه يسعفهم ولا ينقذهم من التدهور الذي هم فيه. لكن التاريخ مليء بالقصص الناجحة والفاشلة، ومليء بالتزييف والكذب، ومليء بالأساطير والبطولات. ومن المهم أن تعرف الشعوب كيف تستفيد من تاريخها وتعرف ما تأخذ منه وما لا تأخذ. ويبدو أن الشعوب العربية أخفقت في التعامل مع التاريخ وفي العودة له، كما أخفقت في التعامل مع الحاضر والتحضير للمستقبل. وازدادت الأمور سوءاً في العقود الخمسة الأخيرة ولا أفق واضح أو فرصة لأي نهضة حقيقية.
إن استمرار الفشل يؤدي إلى اليأس والإحباط والتشدد والانغلاق والتدمير الذاتي. وهذه النتيجة الحتمية ظاهرة اليوم في عالمنا العربي بشكل واضح وجلي، وأصبحنا نمارس الترهيب الفكري والعنف والإرهاب ضد بعضنا البعض قبل أن مارسه على غيرنا. أصبحنا لا نتقبل أي شيء، وحتى الأشياء التي في صالحنا. لا نتقبّل الغير ولا نتقبّل أنفسنا. أصبحنا أعداء لأنفسنا. لا نسمع الغير ولا نريد أن نسمع. لا نقرأ ولا نريد أن نقرأ. أغلقنا باب الاستعداد للاستقبال، وأصبحنا نرسل فقط يأسنا وبؤسنا. بل يمكن تشخيص الوضع على أنه مرض نفسي. نعم نحن اليوم في عالمنا العربي مرضى نفسيين بحاجة لعلاج نفسي قبل المعالجة الفكرية. وأنا لا أبالغ هنا. فالكيل قد طفح، وحجم الكارثة والمأساة فاق كل تصوّر. ونحن في النهاية بشر، نستطيع أن نتقبل الظلم والقهر والحرمان إلى مستويات معينة وبعدها ننفجر. نعم انفجرت الشعوب العربية عام 2011 فيما يسمى بالربيع العربي، ولكنها بقيت تائهة فكريا ونفسيا. لم تقدم لها قياداتها الشعبية رؤية واضحة لمعالجة وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واستمر التخبط في التعامل مع للتاريخ حتى مع وجود إرادة شعبية قوية للتغير.
نقولها وبصوت عالي، الحل لا يكمن في العودة للتاريخ، فكل فترة في تاريخ البشرية لها خصوصيتها وحلولها التي تناسب تلك الفترة، ولا تناسب عصرنا الحالي بعد مئات وآلاف السنين. بل إن الحلول التي كانت مناسبة فقط قبل خمسين عاما، قد لا تكون مناسبة اليوم في عام 2020. نحتاج في البداية أن نعترف أن وضعنا صعب وليس وردي كما يحب أن يجملّه البعض، وعلينا أن نفتح عقولنا وقلوبنا لكل ما هو خير لأمتنا ولكل ما قد يساعدنا في التحضير لنهضة جديدة تقوم على المنهج العلمي وتبني على النجاحات التي حققتها الأمم الأخرى في عصرنا الحالي في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والرياضة والعلوم الطبيعية التي هي أساس كل تقدم ونهضة. علينا أن نخرج من الانغلاق والتقوقع والعدائية لكل شيء والتوقف عن البحث المضني في سراديب التاريخ والتعلق الاعمى بأحداثه، والانتقال إلى الانفتاح على الحضارات الأخرى التي سبقتنا ونعيد صياغة علاقاتنا مع باقي شعوب العالم على أساس التعاون والتبادل والمصالح المشتركة.
ولن ينطفئ غضب المواطن العربي وحقده على كل شيء حتى تعود له ثرواته المسلوبة وحقوقه المسلوبة. ومرحلة التوتر والعنف الفكري لن تنتهي ولن تهدأ إلا بعد أن يرتاح المواطن العربي في بلده ويحصل على كافة حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحياة كريمة في ظل دولة مدنية ديمقراطية تعددية تقوم على الحريات والمساواة والعدالة الاجتماعية.
[email protected]
أضف تعليق