مقابلة مع البروفيسور دان أريئيلي، الأستاذ الجامعي في علم النفس والاقتصاد السلوكي في جامعة ديوك (الولايات المتحدة). يقول إن المجالات التي تهمه هي كيف بالإمكان تحسين الوضع الإنساني، وإنه يحاول فهم ماهيّة الطبيعة الإنسانية التي تجعلنا نتصرف (في مختلف مجالات الحياة) بصورة أقل من مثالية، وكيف وما الذي بالإمكان تصحيحه. ويقول إنه في الأيام العادية يعمل على تحليل السلوك الاقتصادي، الصحي.
في بداية المقابلة، وبعد التعريف بنفسه، يقول: "ولكن فجأة، جاءنا وباء الكورونا. عندما بدأ هذا الوباء، كنت في الولايات المتحدة، وبدأت بالعمل مع عدد من المنظمات وكذلك مع الحكومة الإسرائيلية، لكن بعد نحو أسبوع فهمت أنه ليس بالإمكان الاستمرار بالعمل عن بعد، فأخذا آخر رحلة جوية وجئت للبلاد قبل نحو أربعة أسابيع، ومنذ ذلك الحين أنا هنا، أعمل فقط بالأمور التي تتعلق بالكورونا".
إذاً، بماذا بدأنا؟َ
يقول إريئيلي: "بدأنا بالسؤال حول كيفية إعطاء الناس تعليمات ليكون بمقدورهم تنفيذها. بالمناسبة، لا يتم القيام بكل ما أقترحه. مثلاً عندما نقول للناس لا تخرجوا من المنزل، من الواضح أنه ليس بالإمكان عدم الخروج من المنزل نهائيا. وإذا قلنا للناس لا تخرجوا من المنزل إلا إلى السوبرماركت، فقد يخرج الناس للسوبر ماركت عشر مرات في اليوم! ليس من الواضح للناس لماذا بعض الأمور مسموحة وبعضها الآخر ممنوعا. الأمر الأول هو التفكير بطرق نعطي من خلالها التعليمات للناس بحيث يفهموا. يفهموا المسموح والممنوع، ما هي الحدود، أن يفهموا المنطق وراء الأمور، ويكون بإمكانهم تنفيذ التعليمات.
بعد ذلك بدأنا التفكير بوزارة التربية. تم الزّج بوزارة التربية في معركة التعليم عن بعد، في حين أن أحداً لا يعرف كيفية القيام بذلك. فبدأنا بإعداد الاستبيانات في محاولة فهم ما الذي يعمل بصورة جيدة وما الذي أقل. لنستطيع تقديم التوجيهات وحتى الاستعداد للسنة القادمة.
للأسف، خلال هذه الفترة، فهمنا أيضا أن العنف داخل المنزل ازداد، بحق النساء وبالأساس بحق الأطفال. بدأنا نفكر كيف بالإمكان المساعدة في هذا المجال. النتائج محزنة جدا، لأنه عندما يكون الناس داخل المنزل تحت ضغط، تكون هنالك ثورات من الغضب والعنف، فنحن لسنا معتادين على أن نكون داخل المنزل لمثل هذه الفترات الطويلة على مقربة لصيقة من الآخرين، تحت ضغط اقتصادي واجتماعي.
بدأنا الحديث عن كيفية الخروج، أو استراتيجية الخروج، كيفية تخفيض مستوى الهلع، كيف نسمح للناس بالخروج وكيف حتى علينا أن نقدم الأموال بصورة تكون فعالة وذات جدوى.
تعالوا نفكّر سويا، كيف نقوم بمواجهة الكورونا؟
الأمر الأول الذي علينا الاعتراف به هو أننا لا نفهم فعلا كيف يتصرف هذا الفايروس. نحن نعمل ضمن ظروف من عدم الفهم التام. فكروا أن جزءاً من سكان الدولة تعرضوا للعدوى، ونحن لا نعرف نسبة المصابين. من بين المصابين، هناك مصابون بصورة طفيفة، نحن نعرف عن جزء منهم، ومنهم من أصيب بصورة خطيرة، ونحن نعرفهم، ومنهم من توفوا – للأسف – وهؤلاء نعرفهم فعلا. نحن نعرف عدد المتوفين، نعرف نسبتهم من مجمل المصابين بصورة خطيرة، ولكننا لا نعرف عدد الذين من الممكن أن يكونوا قد أصيبوا أو ما هو وضعهم. مثلا إذا قلنا إننا لدينا في إسرائيل 20 ألف مصاب، توفي منهم 200 شخص، فهذا يعني ما نسبته 1% فقط، ولكننا لا نستطيع الجزم أن عدد المصابين الحقيقي هو 20 ألف فعلا، لأنه إذا كان نصف المصابين تقريبا مع أعراض خفيفة أو بدون أعراض نهائيا، فهذا يعني أن العدد الحقيقي هو 40 ألف، وفي أماكن معينة يقال إن 90% من المصابين ليس لديهم أية أعراض.
الحقيقة، أحد الأمور التي تؤسفني فعلا هو أنه لا يتم استثمار المزيد من الموارد من أجل معرفة العدد الحقيقي للأشخاص الذين أصيبوا بصورة غير خطيرة. لأننا لو فهمنا هذا المعطي لكان بإمكاننا التصرف بصورة مختلفة (في بعض الدول الأخرى يقومون بذلك، فيا حبذا لو تعلمنا منهم).
الأمر الآخر الذي يشكل صعوبة في الأمر هو أن الحكومة تتواصل مع المواطنين بصورة فيها الكثير من عدم الوضوح. في علم النفس هنالك أبحاث حول موضوع "العجز المُكتسب". نحن نمتلك قدرة عظيمة على مواجهة الصعوبات، لكن علينا أن نفهم هذه الصعوبات، وعندما لا نفهم الصعوبات التي تحلّ علينا، يكون من الصعب علينا مواجهتها. تخيلوا وضعا جاءت الدولة فيه وقالت "هذه خطة الخروج"! (مع تفصيل خطة العمل)، عندها كنا سنقول: "ممتاز، إننا نفهم وبالإمكان البدء بالاستعداد". لكن ليس الأمر كذلك، وليس من الواضح أو المفهوم بالنسبة للتعليمات متى ستأتي، ولماذا بهذه الطريقة أو تلك، يبدو العالم مشوشاً جدا، وعندما يكون الوضع هكذا، ينشأ لدينا نوع من العجز المكتسب ويصبح من الصعب علينا مواجهة الوضع.
بعد الحديث عن الأمور السلبية، بودّي التطرق أيضا إلى بعض الأمور الأكثر الإيجابية. أحد الأمور الإيجابية التي تظهرها لنا أزمة الكورونا بصورة واضحة، هو إلى أي مدى نحن متعلّقون ببعضنا البعض. هناك لعبة اقتصادية اسمها "لعبة الصالح العام"، مفاد هذه اللعبة هو أننا مجتمعين نستطيع أن نحقق ما لا يستطيع كل واحد منا على حدة تحقيقه (شق شوارع، مؤسسات وإلخ – كما في الدول المعافاة). لكن، عندما تستمر اللعبة، شخص ما في مرحلة ما، لا يقوم بالواجب الذي عليه، ورغم ذلك يبقى يحصل على كل ما يحصل عليه الآخرون وأكثر، في مرحلة ما، يصل المجتمع إلى أن لا أحد يؤدي واجبه. نحن في إسرائيل، لا نتصرف حقيقة مثل دولة، في إسرائيل نحن مجموعة من الشرائح المجتمعية وكل منها تسعى لمصلحتها هي، ولهذا السبب من السهل جدا الوصول إلى وضعية عدم أداء الواجبات الكلي (لأنه لماذا يجب أن أقدم أنا واجباتي لكي أحصل على حقوقي بينما يحصل عليها الآخرون دون أن يقدموا أي شيء؟). ملخص هذه اللعبة هو أنه عندما يؤدي الجميع ما عليه يكون الوضع ممتازا بالنسبة للجميع، ولكن عندما يخون أحدهم الأمانة ويشعر الآخرون بأنهم مخدوعون، يؤدي ذلك بالضرورة إلى حالة عدم أداء أي من الأطراف للواجب.
في الحالات العادية، عندما يتوقف شخص ما عن دفع الضرائب، فإننا كمجتمع نخسر الضرائب القادمة منه (لو افترضنا مثلا أن 10% من الجمهور لا يدفع الضرائب، فإننا نملك 10% أقل من المال)، لكن تعالوا نتخيل عالما نطلب فيه من الناس أن يكونوا في الحجر الصحي بصورة ما، ولكن هناك 10% من الناس لا يلتزمون. هؤلاء الناس يسببون الضرر للجميع بأكثر من 10% بكثير، لأن هؤلاء سيشكلون ضغطا كبيراً على الجهاز الصحي على حساب الجميع. بهذا الشكل، تظهر فترة الكورونا بصورة واضحة وجليّة قدر التعلق المتبادل بيننا، إلى أي مدى نحن متعلقون ببعضنا البعض حقاً.
عندما أفكر بهذا، وأتخيل شخصا على وشك فقدان عمله، وليس لديه المال، فكيف يمكننا أن نتوقع منه أن يبقى في المنزل؟ فقط لأن أحدهم قال له ذلك؟ وماذا سيحصل إذا رأى أشخاصاً آخرين يقومون بذلك؟ هل سيستمر بالالتزام أيضا؟ أم أنه سيقول "لا شأن لي بالآخرين، لا يهمني سوى نفسي"؟
أعتقد أن هذه الفترة من الممكن أن تكون فترة شديدة الصعوبة من انعدام الأخوة الوطنية، لكن بالمقابل من الممكن أن تكون فترة تكشف لنا عن مدى أهمية كلّ منا بالنسبة للآخرين. وأعتقد أن هذه هي الطريقة التي ستساعدنا على الخروج من هذه الأزمة. ستكون هذه الأزمة شديدة ومعقدة، وكما قلت في البداية، من الناحية الطبية ما زلنا لا نعرف عنه ما يكفي، وإن كنت أعتقد أننا حتى نهاية شهر أيار سنكون أكثر فهما للجانب الطبي. من الممكن أن نكتشف خلال شهر أن هنالك حالة من "مناعة القطيع"، ومن الممكن أن نكتشف أننا لم ننجح بخلق هذا الوضع، وأن علينا متابعة التعايش مع هذا الفايروس لسنة ونصف إضافية، ليس الأمر واضحا، ولكن ما بات واضحا هو أنه ستكون هنالك فترة علينا جميعا أن نساعد بعضنا البعض خلالها. بإمكان الحكومة أن تعطي القليل من المال للمستقلين وللمصالح التجارية، ولكن بالمجمل، المساعدة الحقيقية يجب أن تأتي من شخص لآخر. نريد مثلا ممّن يملك القليل من المال أن يقوم بالشراء المسبق (شراء أمور لا يحتاجها حاليا ولكن سيحتاجها في المستقبل القريب). لا يبدو هذا الحل الكافي أو الوحيد، بالإمكان التفكير بحلول إضافية. لقد خلقنا منظومة إنسانية معقدة، لن يعود كثيرون منها إلى الروتين بعد الأزمة. بإمكاننا أن نقول إن الحكومة هي المسؤولة، ولكن في عالمنا هذا ليس بإمكان الحكومة القيام بما يكفي، وأنا أعتقد أن الأوان قد آن للأخوة والتكافل. ويبقى السؤال المركزي بالنسبة لنا كمجتمع (عربي، يهود، متدين أو إسرائيلي عموما) هو إلى أي مدى بإمكاننا أن نكون متكافلين وإلى أي مدى سننجح بمساعدة الآخرين. هذا هو التحدي الحقيقي، وأنا آمل جدا أن نستطيع تحقيقه بصورة تفوق توقعاتنا جميعا. وهنا أقول لكم شكرا جزيلاً وإلى اللقاء.
[email protected]
أضف تعليق