يبدو أن الإغلاق الطويل الذي لم ينته بعد والتغيير الحادّ في الروتين اليومي للحياة بدأ بالتأثير على الحالة النفسية للناس تحديدا، وليس فقط من لديهم حساسية شديدة نفسية، بل لدى الناس الذين لا يعانون من أية أعراض نفسية حتى.
يقول بعض المختصين النفسيين إن أزمة الكورونا تضعنا في مواجهة اختبار حقيقي، ربما يكون أكبر اختبار نفسي واجتماعي في حياتنا، وعلينا أن نتعلم كيفية التعامل مع ظواهر لا نعرفها بالقدر الكافي من حيث قوتها، حجمها، واستثنائيتها. ويبدو أن شرائح اجتماعية كاملة تقف على مشارف الدخول إلى دائرة الأزمات النفسية.
يقول أحد المختصين إن الحالة الاستثنائية التي نعيشها حاليا، المصحوبة بأزمة اقتصادية آخذة بالاتساع (أصبحت نسبة البطالة في البلاد 26%)، الأمر الذي يشكل تحديا نفسيا كبيرا.
يتضح من المعطيات أن مثل هذه الفترات تشهد انخفاضا في عدد التوجهات لخدمات الصحة النفسية، لكن هذا الأمر لا يعكس الواقع من حيث الحالة الصحية النفسية في المجتمع، وإنما يعبر بالأساس عن امتناع الناس عن الحضور لتلقي العلاج.
حدث مزلزل غير مسبوق على المستوى الإنساني!!
للتعقيب على هذا الموضوع، تحدثنا في موقع بكرا مع الأخصائي النفسي دكتور مصطفى قصقصي، اختصاصيّ نفسيّ عياديّ ومعالج نفسي أسري في قسم الصحّة النفسيّة ومركز "معنى" – مستشفى الناصرة – الإنجليزي
بكرا: هل هناك خصوصيّة لأزمة فيروس كورونا؟
د. قصقصي: نحن أمام حدث كوني فارِق، أو تحوّل استثنائيّ لا سابق ولا مثيل له في التاريخ الإنسانيّ. نحن في مرحلة تعلّم صعبة ومتطلّبة في ظلّ الأزمة والتهديد الخطير والمباشر على سلامتنا الجسدية والنفسيّة، دون معرفة جاهزة أو مبادئ مُثبتة النجاعة بالنسبة لما يتعلّق بطرق المواجهة المناسبة.
تكمن خصوصية هذه الأزمة في شموليّتها وفي غموض الخطر، وفي صعوبة التنبؤ بتطورها وبنهايتها، وفي كونها تهاجِم بشراسة غير مسبوقة هوّيَتنا الإنسانية على اختلاف مكوّناتها وطبقاتها، إذ تطال علاقتنا مع جسدنا، ومع ذاتنا، ومع الآخرين ومع العالم، هذا العالم الذي بات مذهولاً ومعطّلاً عن الإنتاج وعن التواصل الطبيعيّ ومريضاً بجرثومة القلق والخوف.
بكرا: هل تعتقد أن لأزمة تفشي وباء الكورونا – بالإضافة إلى التأثير الجسدي على المصابين أنفسهم – تأثيرات نفسية على المصابين وغير المصابين (مثلا بسبب الجلوس الطويل في البيت، البطالة، الأزمة الاقتصادية وغيرها)؟
د. قصقصي: تلقي أزمة وباء الكورونا بظلالها على الحياة الإنسانية بشكل عام، كونها أزمة تضع الإنسان والمجتمع الإنساني برمتّه في مهبّ القلق وعدم اليقين والخوف من المستقبل، وتزعزع الإحساس بالأمان وتعطّل بطريقة صادمة وشاملة نظام حياة ترسّخ على مر السنين.
وعليه، رغم تمحور هذه الأزمة حول الجانب الصحّي الجسديّ وحول خطورة العدوى واستهدافها الجسد بطريقة مباغتة وعنيفة أحياناً، فإنها تحمل في طياتها وفي تأثيراتها المباشرة بذور أزمات نفسيّة واجتماعية واقتصاديّة داهمة قد تتراكم وتتفاقم.
الوجود الإنساني في مأزق، بما في ذلك كلّ ما يستند إليه هذا الوجود من مسلّمات وبديهيات حياتية كحرّية الخروج من المنزل، والأمان الاقتصادي النسبيّ، والتواصل مع الآخرين عن قرب، والاستئناس بحكمة كبار السنّ وحضورهم المطمئن في حياتنا، والاختلاء الانتقائي (غير القسريّ) مع النفس، وغيرها من العادات والطقوس الحياتيّة التي تعين البشر على الحياة وتضفي نكهة عليها، هذا الوجود الإنسانيّ كما نعرفه لم يعد ممكناً في الحاضر وفي المستقبل المنظور. هذه المعركة المُنهِكة ضدّ عدو غير مرئيّ وسريع الحركة تستنزف النفس وتدفعها إلى الانسحاب والتقوقع وفقدان الثقة بالعالم كمكان آمن.
كذلك من المتوقّع أن يواجه المتعافون من الفيروس أيضاً صعوبات نفسية مرتبطة بالتجربة القاسية ذات الطابع الصدميّ التي تعرّضوا لها والتي قد تستغرق وقتاً لكي يتم علاجها وتجاوزها.
قد نقف، بعد احتواء عدوى الفيروس وانحسارها في حدود معقولة، على أعتاب وباء نفسيّ ربما لا يقلّ خطورةً عن وباء فيروس كورونا، وباء القلق والاكتئاب واضطرابات التكيّف على اختلافها الذي قد تنتشر عدواه بين الكبار والصغار. بناءً على ذلك، فإن استراتيجيّة المرحلة الثانية، أو ما يسمى استراتيجيّة الخروج، يجب أن تشمل أيضاً خطوات للتعامل مع الهزّات الارتداديّة النفسية المتوقّعة.
تصالحوا مع القلق، فهو جزء أصيل من كياننا الإنساني
بكرا: ما هي بنظرك السبل والطرق السليمة ليواجه الأشخاص هذه المشاكل النفسية التي قد تصيبهم بسبب الإغلاق والجلوس في المنزل، وماذا بإمكانهم أن يفعلوا لتفادي الوقوع في هذه الأزمات منذ البداية؟
د. قصقصي: أي حديث عن طرق التعايش مع الظروف الاستثنائية الحالية يجب أن ينطلق من الاعتراف بعدم توفّر معرفة وخبرة كافيين لدينا كمختصّين وغير مختصّين في فهم ومواجهة هذه الصدمة الوجودية الكبرى على مختلف تشعباتها وإسقاطاتها، بما في ذلك تعليمات التباعد الاجتماعي، والحجر المنزلي والقلق الاقتصادي، وفقدان الثقة بالحياة وبالعالم. نحتاج مزيداً من الوقت لكي نعمّق فهمنا للطريقة أو الطرق التي تلجأ إليها النفس البشرية لكي تنتظم وتتحصّن من جديد إزاء هذا الحدث المزلزِل.
في هذه الأثناء، نلحظ أنّ الحجر المنزلي، على أهميّته ونجاعته في صدّ انتشار العدوى، يشكّل تحدّيا نفسيا وأسريّاً واجتماعياً مركّباً، خاصّة إذا لم ينجح الأفراد في تطوير أساليب تكيّف صحّية، وفي اعتماد طرق مناسبة لصيانة وتعزيز الصحّة والحصانة النفسيّة. كذلك من الطبيعيّ أن تتوتّر العلاقات الزوجية والأسريّة بفعل الإرهاق النفسي الذي يفرزه القلق المتواصل وحالة الغموض والخوف من المجهول والحياة المشتركة المكثّفة دون متنفسّات ومساحات شخصية مناسبة للأهل وللأولاد، ناهيك عن أنّ حالة العزل قد تشكّل غطاءً لاستشراء ظاهرة العنف المنزليّ المقيتة والخطيرة.
بكرا: إذاً ما العمل؟
د. قصقصي: أولاً على الأفراد أن يتصالحوا مع القلق، أن يقبلوه باعتباره طبيعياً ومؤشّراً على التكيف في هذه الأيام غير العاديّة. القلق ليس عدواً دائماً وقد تكون محاربته غير مجدية في الوضع الحالي، ولا حاجة لإدّعاء الهدوء والسلام النفسيّ، أو توبيخ المشاعر السلبيّة والإحساس بالهشاشة، جلد الذات بسبب تراجع الدافعيّة والتوقّف عن العمل والإنتاج في هذه الفترة. الأزمة حقيقية، وضاغطة، القلق مبررّ ومفهوم، ولا يمكن تجنبّه تماما، بل من المستحسن قبوله كمعطى وجوديّ في هذه المرحلة.
في المقابل العناية بصحتّنا النفسيّة في هذه الأيام تبدأ بالتدرّب على الانتظار، والصبر والقبول بمحدودية قدرتنا على تغيير الوضع الحالي، والاستمتاع قدر الإمكان بالبطء الذي بات الإيقاع الجديد الذي تسير بحسبه حياتنا، والاهتمام بالتفاصيل الحياتية الصغيرة، وبإعادة الوهج للأفراح الصغيرة التي خبا ألقُها في خضمّ سباقاتنا وهمومنا الحياتية، الاستثمار في علاقاتنا القريبة وإعادة اكتشاف مناطق من العذوبة والدفء والجمال الإنسانيّ فيها وفتح مساحات جديدة داخلنا لاستقبال الآخر، والإصغاء له ومشاركته بمسرّاتنا ومخاوفنا وذكرياتنا وأحلامنا.
بكرا: يدور الحديث في أوساط المختصين، حول أن مرحلة ما بعد الوباء، تشهد تاريخيا موجات من حالات الاكتئاب والانتحار لمختلف الأسباب. ما رأيك في هذا الموضوع وكيف بالإمكان التخفيف من آثاره على الناس عموما، وبضمنهم من لا يعانون من أي خلفية أو مشاكل نفسية سابقة؟
د. قصقصي: نعم، هذا خطر حقيقي وموثّق في أزمات كبرى سابقة، ويتطلّب استعداداً من منظومة الصحّة النفسيّة للحدّ منه وتوفير المساعدة النفسية المطلوبة. يمكن تفسير الموجة المتأخّرة من الضائقة النفسيّة الشديدة بانشغال الأفراد، سواء المتوازنين أو الأقل توازناً نفسيّاً، بمهام بقائية وبمواجهة التهديدات الخارجيّة الموضوعيّة المرتبطة بانتشار الفيروس، وبالتهائِهم المؤقّت عن الصراعات النفسية الداخليّة بتدبّر أمورهم اليوميّة المتمركزة حول القلق القادم من الخارج والهادفة إلى حماية الذات. عندما تكون النفس منشغلة بالقلق الخارجي، تكون أقلّ انشغالاً بالقلق الداخلي.
لكن من شأن الأثر الصدمي العميق لتجربة العيش الطويل في ظلّ القلق الوجوديّ أن يشتدّ على المدى المتوسّط والبعيد، سواء استمرت الأزمة أم تراجعت.
المفتاح لتقليص الإسقاطات النفسيّة السلبيّة في مرحلة ما بعد الوباء هو الحفاظ على روتين حياة، ثابت ومتنوّع لا يخلو من اللعب والنشاطات الترفيهيّة والإبداعيّة، والاستثمار في العلاقات الإنسانيّة القريبة، وتجديد الثقة في الحياة، استلهاماً لمقولة علي بن أبي طالب: "من وثق بماء لا يظمأ"، ومن وثق بالحياة لا يُهْزَم.
[email protected]
أضف تعليق