بقلم د. عدنان قادر صرصور
في ظِل تداعياتِ الأزمَةِ الصحيةِ العالميةِ التي يَعيشها العَديدُ في أصقاع العالم، استوقفتني الذاكرةُ على تلك المسرحيةِ التي شاهدتُها بمَسْرح شِكسبير بلندن، أثناءَ تواجُدي بمَركز الوَثائِق "The National Archives" في "كيو جاردنز" قبلَ عِدةِ سَنوات.
أحداثُ المَسرحيةِ تتمحورُ بلقاءٍ افتراضي في اللد ما بينَ القيْصَر الروماني طيباريوس وبينَ المسيح عَليهِ السلام. الحَديثُ يدورُ عن فكرةِ استكشافِ رواياتٍ أدبيةٍ فضفاضة تغلغلتْ لأدبِ الثقافةِ العالميةِ عبرَ القرون، تسلطُ الضوءَ على الحالةِ المزاجيةِ للحياةِ الإنسانية، مُنذ ألفي عامٍ وحتى يومِنا هذا.
القيصرُ طيباريوس (42 ق.م – 37 م) مريضٌ ومُحتضرٌ في قصرهِ بالعاصمةِ روما، وسمع فيما سمع عن يسوع المعجزة في منطقة نائية في أطراف إمبراطوريته، في مدينة القدس. النصُ المسرحي The Inn at Lydda تضمنَ نُصوصاً مُستثنية للقانون الكتابي للدراما المَسرحية. جَمَعَ بينَ الامبراطور العليلِ المُحتضر وبينَ المسيحِ المُنبعثِ في لقاءٍ افتراضي خارقٍ للمكان والزمان. جَمعَ ما بينَ الغطرسة والتواضُعِ مُقدماً تصحيحاً للقوة الأرضية. فقد خرجَ القيصرُ مع حاشيتهِ ومستشاريهِ والأملُ يحدوهُ بثقةٍ تامةٍ بالشفاء من مرضهِ الذي عَجزت عنهُ أطباءُ روما وثغور امبراطوريتهِ الفسيحةِ. لكنَّ لسوءِ حظِ القيصر طيباريوس، لمْ يتم اللقاءُ الحقيقي الملموس وجهاً لوجه معَ المسيح، رغمَ مُسارعتهِ الزمنَ واجتيازه المسافات. فما فتئت قدماهُ أنْ تطأَ الأرضَ المقدسة حتى تمَّ ابلاغهُ عن فوات الأوانِ, لأنَّ الرجلَ المعجزة قدْ صُلِبَ (بالنص المسرحي) ورُفع ("وما صَلبوه يقينا" بالنص القرآني)، ولم يَعُدْ هناكَ بالإمكان منْ لقاء. فما كانَ من القيْصَر الا أنْ استشاطَ غضباً على الوالي "بونتيوس بيلاتوس"، لأنّه أدانَ اليسوع وحكمَ عليه بالموتِ صَلْباً بحدودِ عام 33 م، اشباعاً وترضيةً لرغباتٍ ونزوات (رغمَ اختلافِ الأناجيلِ المسيحيةِ الكَنَسِيَّةِ الأربعةِ في رواياتها بهذا الصدد).
وهنا يَجمَعُ كاتبُ المسرحية، "جون وولفسون"، بكل جُرأة اللقاءَ الافتراضي بينَ القيصر طيباريوس وبينَ المسيح القائِم من الموتِ، بنُزُلٍ في اللد من أجلِ مناظرةٍ افتراضيةٍ حولَ قوة الإمبراطوريةِ الأرضيةِ مُقابل الفداءِ الروحي. والسؤالُ المتبادرُ للأذهان، لماذا اختارَ كاتبُ المسرحيةِ مَكانَ اللقاءِ الافتراضي مَدينة اللد بالذات؟
رُبَّما قرأ وعَرفَ برفقةِ المُخرجِ من رجالات ديانةٍ أخرى عن نُزول المسيح يَوماً ما الى الأرضِ ثانيةً، لتخليص الانسان مِنَ الشقاءِ والاستعباد.
تَعاقبُ مَشاهد المسرحيةِ، أبرزَ أنّ البعضَ من حاشيةِ القيصر كانَ يطوفُ البلادَ والعبادَ بحثاً عن عُشبةِ الشفاء، رُبَّما في تخوم جبالِ القدس أو في التلال والربوات المقابلةِ لمنطقةِ بينار باشي (منطقة العوجا - اكتسبت الاسم العثماني لاحقاً عام 1571، زمنَ السلطان سليم الثاني) المحاذية لكفرقاسم اليوم.
في واقع المَسرحيةِ الافتراضي تتجسدُ عودةُ اليَسوع لتُوهِ من السماء، ويستعدُ ليكشفَ عن نفسهِ لتلامذتهِ حينما يواجهُ مَجموعةً مختلفةً من ماضيه. ذلكَ من الايحاءات والايماءات أنَّ النظامَ العالمي الجديد عليه الّا يسعى أبداً لحرق الجسور مع العالمِ القديم، بل يحتاجُ للونٍ من نقطةِ بدايةٍ قياسيةٍ لنواميس الأحياء وتنظيم التقاويم. فالسيناريو المسرحي في The Inn at Lydda يُبرز فلسفةَ التقارب الافتراضي لطيباريوس من جَوهر الايمان، رغمَ أفعاله القاتمة والقاتلة، بلْ وتلوينه كل أرغفة خُبز البسطاء, حتى وانْ كانوا أطفالاً رُضّعاً في جيل التسنين. فما الذي جعلهُ يُزيلُ "الكمامات" القاتمةَ عن بصرهِ وبصيرتهِ فاتحاً فاهُ لطلبِ العفو والمغفرة من أهاتِ وزفراتِ الأرامل والفقراء. فطالما استنشقَ في أفنيةِ قصره أتونَ هَوَس الغطرسةِ وكبرياء العظمة، جعلَ الطريقَ تتمهدُ على وجهِ السرعةِ ما بين روما والأرض المقدسة.
رُبما ليس من باب الرنين الديني، بلْ منْ باب التفاهمات الافتراضية المتعارضة معَ السُلطةِ الطاغيةِ. حتى وانْ بَدا ذلكَ غيرَ مُستساغٍ وليسَ متوازناً في الجدل "البراغماتي" المثير للذهول، كيفَ لا وطيباريوس يُمثل السيادة المترفعة كإمبراطور قوي انزلقَ لمنحدر تَأليهٍ لاهوتي أرضي لذاتهِ ولورثته ظاناً أنَّهُ صَنعَ روما آمنةً وقويةً.
يدورُ الحديثُ بالأساس، عن دراما غريبة نوعاً ما، في الوقت الذي كانَ فيه طيباريوس يتحدثُ الى جنرالاته بشأنِ الطوارئ ومُحاصرة المَرض، كانَ هنالكَ مَنْ يُحاولُ اقناع يسوع قبلَ اللقاء الافتراضي، بمنح القيصر فرصةً للتوبةِ من نوبات جنون عظمته، بغرض الشفاء من مرضهِ وتلوث جسده. لأنه نوى وعزم على إزالة "الكمامة" عن بصيرته واضعاً إياها على فمه ومجرى متنفسه، لنفسه وسائر حشمه وحاشيته. لكن هذه الوقاية الافتراضية لم تُجدِ نفعاً، بمنظور البلاغةِ الفكريةِ لمقوماتِ الاعتقاد والاقتصاد، لأنَّ الوريثَ المرافقَ لطيباريوس من بعده "كاليجولا" القيصر (بين السنوات 37 – 41) كان أكثر تلوثاً بطاعون دَمويةِ الاستعبادِ.
لا شكَ بأنَّ المسرحيةَ قد لاقت ردودَ فعل متباينة من النقيض للنقيض. فمنهم مَنْ رآها أنَّها بمثابة "حملة صليبية" ناضجة، انْ صحَّ التعبيرُ، على السلطةِ وفسادها. لكن ليسَ بمفهوم الحملات الصليبية التي قامَتْ بها أوروبا من أواخر القرن الحادي عشر للأرض المقدسة. بل انَّها حَملةٌ لصلبِ الشر الكامن في ثقافةِ الاستعبادِ والجهل. يتجلى ذلك حينما تشتعلُ المسرحيةُ بالتقاء تاريخي افتراضي بعيون القرن ال-21, حينما يؤكد المسيح بخطبة نبوية قصيرة عالية الجودة عن الطبيعة الفاسدة للسلطة، أن روما ليست غنية بغنى قيصرها، بل هناك ضرورة حتمية لفلسفة حياتية أخلاقية للتذكر بوجودِ عالمٍ في مكان آخر.
وبهذا يضعُ كاتبُ المسرحيةِ "جون وولفسون" بفكرتهِ الجريئةِ العديدَ من الأسئلةِ المفتوحة للنقاش عن طبيعة التاريخ والحاضر والمستقبل الإنساني على كوكب الأرض، بلْ رُبما يتعدى ذلك أبراجَ دربِ التبانة في عالم الأبدية المُطلقة.
فهل العالم حَقاً في انتظار المَسيحِ قادماً من السماء؟
رُبما نقطة الخلافِ الجوهرية بينَ الديانات حولَ هذا وذك الموضوع هيَ "ال" التعريفِ; "مسيح" أم "المسيح"؟ لأنَّ هناكَ من يرى بالرمزيةِ "مَسيحَهُ" الذاتي ليتناغمَ مع ثنائيةِ الارتباطِ ما بينَ فُنونِ العلمِ الجميلةِ وبينَ الفكر الديني نحوَ الشفاءِ لمُواجهة الوباءِ، حتى ولو كانَ جائحةَ الكورونا.
[email protected]
أضف تعليق