أزمة اقتصادية عالمية مجمع عليها.. لكن التباينات واضحة والهوة في اتساع بين المنظرين والباحثين الاقتصاديين والرأس ماليين والسياسيين وممثلي الصحة.
قلة من السياسيين الكبار والأكثر تطرفاً انحازوا بشكل واضح إلى استمرار عجلة الاقتصاد بوتيرتها السابقة، تضامناً مع رأس المال، وهم المحافظون والشعبويون الذين تتلخص أفكارهم بأنه في سبيل الحفاظ على اقتصاد الدولة لا ضير من وفاة عشرات الآلاف من المصابين بـ "كورونا"، وربما هذا يحصل سنوياً مع أمراض موسمية تمر دون أن يلتفت أحد إلى ضحاياها.. بمعنى أن الاقتصاد يعلو على الصحة.
ومن أقوى المنظرين لهذا المبدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان في بداية تفشي الوباء مصرّاً على أن ما يحدث مجرد أنفلونزا، وأنه لن يقبل بشل اقتصاد الولايات المتحدة مهما كلف الثمن.. لكنه وجد نفسه مجبراً على التخلي عن مواقفه في ظل الانتشار السريع للوباء في أميركا التي باتت تتصدر اليوم عدد الإصابات والوفيات بالفيروس عالمياً.
من بين هؤلاء المنظرين رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون الذي يقبع اليوم في العناية المكثفة بعد إصابته بفيروس كورونا، وفي النهاية اضطرت بريطانيا إلى التراجع عن مواقفها واعتماد إجراءات الطوارئ العالمية وإن كان ذلك متأخراً كما فعلت الولايات المتحدة.
دول أخرى مثل هولندا أصرت على نظرية مناعة القطيع التي نادت بها لندن أولاً، وتبعتها بعد ذلك السويد، ثم تراجعتا عنها بعد تقييم المخاطر الناجمة عن تطبيق هذه النظرية.
بالنسبة لرأس المال، كانت هناك تباينات واضحة بين ترك عجلة الاقتصاد تدور وكأن شيئاً لم يحدث أو تتوقف مطلقاً، وبين رأي ثالث يرى الموازنة بين مفهوم الطوارئ واستمرار القطاعات الاقتصادية الحيوية للدولة.
في مصر مثلاً رجال أعمال كبار (مليارديرات) رفعوا صوتهم مطالبين باستمرار حركة عجلة الاقتصاد كما كانت عليه، رافضين تمديد فترة الطوارئ وشل الحياة الاقتصادية، بل إن أحد كبار رجال الأعمال على المستوى العالمي هدد في لقاء تلفزيوني بالانتحار إذا لم تسمح الحكومة باستئناف حركة رأس المال خلال أسبوع.
أما ممثلو الصحة فهم الأكثر تشدداً باتجاه استمرار شل الحركة، بل يرون أن الأفضل هو الحجر المنزلي المتواصل، ما يعني توقف عجلة الاقتصاد بغض النظر عن الخسائر، معتبرين أن حياة البشر أهم من المال.
خيارات صعبة، أحلاها مر، وربما الأخطر اقتصادياً هو ما سيحمله لنا المستقبل، فعلى سبيل المثال يحذر كثير من الخبراء من اتساع رقعة الفقر حتى في الدول المتقدمة وانتشار المجاعات في الدول الضعيفة والهشة وربما موت الملايين جوعاً وليس فتكاً بـ "كورونا".
حتى أن التباين واضح بين الاقتصاديين والمحللين حول تكلفة الإغلاق، فمنهم من يعتبرها الأزمة الأخطر منذ انهيار الأسواق المالية في العام ٢٠٠٨ والبعض يقول إنها الأخطر منذ الكساد الكبير في العام ١٩٢٩.
وآخرون يقولون إن العالم لم يمر بأزمة مثل ما يواجهه اليوم وإن التأثيرات الحقيقية ستظهر خلال أشهر وسنوات قادمة.
ولكن ماذا بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني وإجراءات الحكومة في ظل حالة الطوارئ المستمرة منذ أسابيع، والشلل شبه التام الذي بات يضرب مختلف المرافق الاقتصادية، على الرغم من هشاشة اقتصادنا الوطني، الذي لا يمكن مقارنته بأي اقتصاد عالمي حتى في الدول النامية التي لديها الكثير من الخصوصيات.
رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية أكد في تصريحات صحافية أن التقديرات الحكومية لقيمة الخسائر الإجمالية للاقتصاد الفلسطيني تبلغ 8ر3 مليار دولار ستتضرر منها مختلف القطاعات، علماً أنه سيتم تدقيق الأرقام من لجنة مشتركة بين الحكومة والبنك الدولي.
وأشار إلى أن عجز الموازنة سيرتفع إلى 4ر1 مليار دولار بفعل انخفاض الإيرادات الحكومية بأكثر من ٦٥٠ مليوناً، وبذلك ستخفف الحكومة من نفقاتها إلى أقصى حد لدعم القطاع الصحي بموازنة قدرها ١٣٧ مليون دولار لمواجهة وباء «كورونا» وتوفير الرواتب واحتياجات الأمن. ولكن إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن فلا ضمانة حتى بدفع الرواتب أو جزء منها مستقبلاً!!!
الحكومة منذ بداية الأزمة تحاول قدر الإمكان تجنب الخوض في مشاكل القطاع الخاص، وتأثير الأزمة عليه، وطرق إنعاشه أو على الأقل بقائه على قيد الحياة، على الرغم من أنه بات كالجسد الذي يعاني من الهزال شيئاً فشيئاً قبل الوصول إلى الكارثة.
كان سهلاً على الحكومة أن تقول لا لفصل العمال والموظفين من القطاع الخاص في ظل إعلان الطوارئ وهذا حق.. ولكن ماذا عن رأس المال الذي يتآكل والشركات التي بدأت تنهار؟ وماذا عن موظفين يرفضون حتى التعاون مع مشغليهم بحجة أن هناك قراراً حكومياً بالتزام المنازل وعدم الخصم من الرواتب والأجور؟ ألا يوجد تناقض واضح بين أن تصدر قراراً دون النظر إلى مخاطر هذا القرار وبين كيفية تجاوز المخاطر؟
دول العالم وجهت جزءاً من الدخل المتاح أو ما هو متوافر لديها لدعم القطاع الخاص، في الولايات المتحدة خصصت الإدارة بموافقة الكونغرس 2 تريليون دولار، وهو مبلغ ضخم، جزء منه أجور للمتعطلين عن العمل الذين تم فصلهم، هناك يحق لأي شركة أو مؤسسة فصل الموظفين أو وقف أجورهم، وهذا لا يتعارض مع القانون. في الصين مئات المليارات وجهت للقطاع الخاص، في أوروبا وجهت أيضاً مبالغ ضخمة.. حتى في مصر خصصت عشرات مليارات الجنيهات لدعم الشركات والمصانع المتضررة.
في فلسطين لا دعم... حتى مستحقات القطاع الخاص على الحكومة تصرف بحدها الأدنى، وبالكاد تكفي لدفع الرواتب.. وفي الوقت الذي تجمع فيه الحكومة ما تيسر من مال لدفع رواتب القطاع العام، لم يحصل القطاع الخاص على جزء بسيط من مستحقاته من الحكومة لدفع رواتب موظفيه.. ألا يدفع ما سبق القطاع الخاص للموت التدريجي ويؤكد ضبابية الرؤيا.
في العالم وصلت نسبة الفائدة حد الصفر، والحكومات ملزمة للبنوك بما تقدم من تسهيلات للقطاع الخاص.
أمام هذا الواقع كثرت مناشدات التجار ورجال الأعمال والمزارعين وقوى الإنتاج الأخرى لإعادة النظر في الإجراءات المتخذة، وإيجاد نقطة للتوازن بين حالة الطوارئ والسماح لعجلة الاقتصاد بالدوران ولو بحدها الأدنى.
عشرات المشاغل في الخليل عائلية وهي عادة ما تكون في مناطق قريبة من المنازل. فلماذا لا يسمح للعائلات بفتح مشاغلها التي لا يتجاوز عدد العمال فيها الخمسة أو الستة مع تعهد منهم بالالتزام بمختلف الإجراءات الوقائية؟ ماذا بالنسبة للشركات المتوسطة والكبيرة؟ ماذا لو كان هناك اقتراح مبدع لإعادة التشغيل مع الحفاظ على إجراءات الطوارئ والوقاية لضخ الأوكسجين لها بما يتيح استمرار تدفق الحياة في شرايين الاقتصادية.
الحل عند الحكومة، والشخصيات الاعتبارية النافذة اقتصادياً، أما وزارة الصحة فمطلوب منها عقد اجتماعات مكثفة لإيجاد الحلول التي ترضي الجميع وتوازن بين حركة الاقتصاد وحالة الطوارئ، حتى لا نموت اقتصادياً أيضاً!!!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]