ربما لو تنبأ أحد قبل أربعة أشهر بما يحصل الآن في العالم لوصف بالجنون، فما يحدث اليوم يشبه أحد سيناريوهات أفلام الخيال العلمي الهوليوودية... فمن كان يتوقع أن تتصرف حكومات العالم كالقراصنة؟ ومن كان يتصور أن الدولة القومية ستعود إلى مجدها، وتبرز حدودها المغلقة إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن سيطر مفهوم العولمة على العالم بتفاصيله المملة؟ ومن كان يعتقد أن الشعبوية التي هزت العالم خلال السنوات الخمس الماضية سيعاد النظر في قوتها وتشكيلاتها بعد أن كانت سبباً فيما تمر به كثير من الدول، وخاصة إيطاليا.
سيناريو ما يحصل الآن لو كان من بين التوقعات، لاعتقد المحللون أن حرباً عالمية ثالثة ستهز العالم، مع أن الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل أمست بريئة، فالفيروس الذي يحتاج كشفه إلى مجهر إلكتروني هزم أساسات العالم وبناءه الحداثي، وساهم في خلخلة كثير من تفاصيل هذا البناء سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى ثقافياً وترفيهياً ودينياً.
«كورونا» المرعب والمخيف وحتى غير المتوقع أجبر القوى العظمى على الانحناء أمام عدو غير مرئي... هكذا وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه الحرب.
من مظاهر الحرب مع العدو الخفي فرض العزلة الإجبارية، ولكن ليس على الطريقة الأميركية القديمة أو على طريقة ترامب التي حاول من خلالها إرساء انعزالية الولايات المتحدة عن العالم.. إنها انعزالية فرضت قسراً على الجميع... انعزالية على مستوى الدولة وانعزالية على مستوى المدن والولايات.
الاتحاد الأوروبي ربما بات أكثر المتضررين حتى اللحظة، فالحرب الفجائية خلطت الأوراق كالسحر، وأصبحت الدول تتساقط كحجارة الدومينو وهي تطلب النجدة دون أن يلبي أحد نداءها.. فكل دولة لم يعد يهمها إلا نفسها.. إيطاليا الغارقة تبث نداءات الاستغاثة دون مجيب. الشعب الإيطالي ومثقفوه يلعنون اليوم الذي كانوا فيه جزءاً من الاتحاد الأوروبي ويؤكدون أن هذا الاتحاد قائم على أسس واهية، أضعف من تحمّل الحروب أو المواجهات بصرف النظر عن ماهيتها.
دول أوروبية طلبت المساعدة، فلم تجدها إلا في الصين ليخرج رؤساء أوروبيون وهم يستهزئون بتخاذل دول أوروبا وانعزاليتها.. في وقت متأخر بدأت صحوة ضعيفة لمد يد المساعدة لعدد محدود من الدول الأوروبية. ولكن دون الحد الأدنى أو على الأقل ليس بحجم المساعدات الصينية لأوروبا.
أكثر من ذلك بدأت القرصنة الحكومية العلنية.. التشيك تستولي على شحنة من الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي القادمة من الصين إلى إيطاليا.. القرصنة جاءت بأوامر من الحكومة التشيكية، فاعترضت الحكومة الإيطالية لكن دون جدوى.. في الوقت نفسه استولت الحكومة الإيطالية على شحنة من الكمامات كانت في طريقها من الصين إلى تونس.. احتجت الحكومة التونسية، ولكن دون جدوى.
القرصنة لم تعد مقتصرة على الصومال أو الدول الفاشلة ولكنها تمارس من الدول الأكثر ديمقراطية، الأكثر ثراء، والأكبر قوة.
الانعزالية لم تعد بين الدول، ولكن بين الولايات والمقاطعات، فها هي الحرب تشتعل بين الولايات الأميركية.. ولاية إلينوي في حرب طاحنة مع نيويورك على شراء الكمامات.. إلينوي تتهم نيويورك بمنافستها على شراء الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي من المصدر نفسه. ما أدى إلى أن يضاعف المصدر الأسعار لمن يدفع أكثر من الولايتين؟!!
في لوس إنجليس قرار بمنع إخراج أي كمامة أو جهاز تنفس اصطناعي بل أكثر من ذلك الطلب من صالونات التجميل ودق الوشم والجراحات الاختبارية تحويل مخزون الكمامات لديهم إلى حكومة الولاية.
نأتي إلى الشعوبيين الذين ساعدوا الفيروس في تحقيق اختراقات خطيرة.. زعماء إيطاليا الشعبويون هم من انتقد توجهات الحجر والعزل المنزلي، بل إن بعضهم نزل إلى الشوارع وطالب المواطنين بعدم الالتفات إلى المطالبات بالحجر والانعزال.. فكانت الكارثة.. الشعبويون اختبؤوا ولم يعد يراهم أو يسمعهم أحد رغم اعتذار بعضهم.
في الولايات المتحدة ترامب منذ البداية حاول التقليل من أهمية الفيروس بل اعتبره مثل الأنفلونزا العادية أو أقل، وقال لن نغلق مراكز الإنتاج.. تأخر في القرارات فكانت الكارثة.. نيويورك تنقل جثث الموتى بالشاحنات.. والفيديوهات التي تنشر مرعبة.
في النهاية رفع ترامب يديه مستسلماً، وغيّر خطابه ٣٦٠ درجة معترفاً بخطورة الفيروس ومضطراً لفرض إجراءات لو اتخذت منذ البداية، لربما انتصر على العدو الخفي.
الرئيس البرازيلي الشعبوي يخرج إلى الأسواق.. ويناشد الجمهور عدم الالتفات إلى شائعات الحجر والانعزال ويطالب باستمرار عجلة الإنتاج.. وسائل التواصل الاجتماعي تحذف المشاهد لأنها خطيرة ومخالفة لتعليمات منظمة الصحة العالمية.. خلال اليومين الأخيرين بدأت حالات الإصابة تتضاعف هناك، وبدأت وسائل الاتصال الاجتماعي تلعن اليوم الذي انتخب فيه بولسنارو رئيساً للبرازيل.
هذا غيض من فيض .. فخسائر العالم الاقتصادية حتى اليوم تقدر بأربعة تريليونات دولار.. ونحن ما زلنا في بداية المعركة.. القطاع الصناعي يترنح.. القطاع الزراعي في معظم دول العالم لا يجد العمالة وخاصة في أوروبا.. والثقافة محجورة في المنازل.. أليست هذه انعزالية إجبارية.. سنرى تحولاتها العالمية خلال أشهر وربما سنوات قادمة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]