من الصين إلى الولايات المتحدة، مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا، وكل تلك الدول التي ظهرت فيها حالات الإصابة بفيروس "كورونا"، وإن بدرجات متفاوتة، كان العدو واحداً، وهو فيروس مجهري لا يرى بالعين المجردة، بل وحتى أنه غير معروف من قبل، لذا فإن جهله هو الذي سبب كل هذا الهلع والخوف مما يشكله من خطر على حياة الناس الأبرياء، الذين لا يميز فيهم بين شيخ وطفل، رجل أو امرأة، غني أو فقير، يصل ذروة انتشاره بالتلامس والمصافحة والاتصال بين الناس، حتى لو كانوا عابرين، وهكذا فإنه يمكن القول بالمقارنة بين نموذج ظهور المرض في الصين وإيطاليا، وحيث لم يكتشف حتى اللحظة العلاج الشافي أو المصل المضاد للفيروس، فإن نمط الحياة أو كيفية مواجهة الفيروس هي التي جعلت من النموذج الصيني نموذجا ناجحا.
لقد نجحت الصين في الإعلان مؤخراً عن تلاشي المرض تماما بعد أقل من ثلاثة شهور من ظهوره على أرضها، وفي واحدة من مقاطعاتها التي تقع وسط البلاد، ومعروف أن الصين تجمع أكبر عدد من السكان في العالم، والذين يشكلون نحو خمس البشرية جمعاء، فقد نجح نظام الدولة الدقيق والنظام العام المنضبط جداً، في مواجهة انتشار المرض، والذي لولا ذلك لحصد ملايين الصينيين، ولربما كان قد أربك الاقتصاد الصيني أو وجه له ضربة قاضية، تجعل من فرصة وصوله إلى المرتبة الأولى عالميا في خبر كان، لكن الصين اليوم وقد تعافت، وصارت المأساة وراء ظهرها، فإنها في الوقت الذي ستواصل فيه نموها ونشاطها الاقتصادي، فإنها تقدم يد المساعدة التي تجعل منها دولة عالمية بكل معنى الكلمة للدول الأخرى التي هي بحاجة "لخبرتها" أو لتجربتها في مواجهة "كورونا".
الحقيقة بعد نموذجي الصين أولا وإيران ثانيا، والتي بدورها أيضا تبدو حدة المرض قد تراجعت فيها، توجد الآن حالات ايطاليا، انجلترا، فرنسا، اسبانيا وألمانيا، أي دول أوروبا، ومن ثم الولايات المتحدة، هي الأماكن التي يتكاثر ظهور الفيروس فيها، فيما في الشرق الأوسط، ومنه دولنا العربية، يظهر المرض - والحمد لله - بحالات محدودة، تبقيه تحت سيطرة الأجهزة الصحية، وحيث إن الأردن وفلسطين خاصة سارت على هدي النموذج الصيني، أي بفرض عدم الاتصال بين الناس بل وفرض الحظر المنزلي، وإخضاع الحالات المصابة للرعاية الطبية والحجر الصحي، خاصة وأن جلّ تلك الحالات إنما كانوا مسافرين أتوا من الخارج أو مواطنين تواصلوا مع سياح أجانب، لذا فما زال الأمر بخير، ولا يدعو إلى القلق، اللهم إلا أن يأتي الشر كله من "دولة الجوار"، حيث يظهر "كورونا" بمعدلات أعلى مما هو عليه الحال في الشرق الأوسط - باستثناء ما ظهر عليه في إيران - يظهر هكذا اليوم في إسرائيل.
ففي الوقت الذي ما زال فيه عدد الإصابات في فلسطين أقل من مئة بلغ في إسرائيل 2500، بل إن البروفيسور غابي باراش المدير العام السابق لوزارة الصحة الإسرائيلية توقع أن يصل العدد إلى 80 ألفا خلال أسبوعين، وذلك ما لم تقم السلطات بفرض الإغلاق التام.
أما في أميركا فإن الحال يسير بشكل سيئ للغاية، فقد تجاوز عدد الوفيات بسبب "كورونا" الألف فيما وصلت حالات الإصابة إلى 70 ألفا، وهي بذلك أصبحت ثالث دولة حتى الآن في عدد الإصابات بعد الصين وإيطاليا، وبعض التقارير مرعبة، ذلك أن المشكلة في حقيقة الأمر تكمن في سياسة البيت الأبيض، التي ما زالت تصر على منح الأولوية للاقتصاد، وهي تتردد في فرض الحظر والإغلاق لما يحدثه من ضرر اقتصادي، وهذا يعني أن دونالد ترامب الذي تترجم السياسة وقرارات الرئاسة عنده إلى أرقام، إنما هو أسوأ رئيس يمكن أن يقود الولايات المتحدة في هذا اللحظة بالذات.
لا بد من أخذ الحذر في فلسطين، ليس فقط لجهة الحفاظ على حياة الأسرى والمعتقلين، كذلك العاملين وراء الخط الأخضر، وحسب، ولكن فرض القيود الصارمة على حركة العبور بالاتجاهين عبر الحواجز، بما في ذلك جنود الاحتلال، وإسرائيل بسبب من مشاكلها السياسية الداخلية تتم مواجهة كورونا بشكل غير ناجع تماما، وربما يكون هذا سببا في زيادة انتشاره الملحوظة بالمقارنة مع دول الجوار، أما في الولايات المتحدة، فإن هنالك ظواهر تحدث فيها على غير كل الدول، من ذلك زيادة مبيعات الأسلحة إلى مستوى وصل إلى 800% عن المعتاد، ومعروف أن أميركا هي أكثر دولة في العالم ينتشر فيها السلاح الفردي، وذلك خشية أن تحدث فوضى في البلاد مع انتشار "كورونا"!
قبل أيام أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو، أن الصين كانت قد رفضت استقبال وفد أميركي في "ووهان" حين ظهر فيروس كورونا هناك، أي رفضت المساعدة الأميركية في مواجهة الفيروس أو العدو الخفي كما وصفه ترامب من قبل، الآن وبعد أن نجحت الصين في التخلص من الفيروس، هل تطلب الولايات المتحدة مساعدة الصين المجربة في مواجهة العدو الخفي، أم أن كبرياءها، وحتى توجسها من المنافس الاقتصادي على الصعيد العالمي، سيمنعها من ذلك، على اعتبار أن كورونا إنما هو "الوباء الصيني" كما كان أيضا قد وصفه ترامب من قبل؟!
لا بد من القول إذا، إنه ومع عدم التوصل إلى المصل المعالج لـ"كورونا" حتى اللحظة، فإن نمط الحياة هو الذي أحدث الفارق بين دولة وأخرى، كذلك في الحقيقة لا بد من القول أيضا إن منطق الحياة له أهميته في هذا الأمر، فالدول مثل الأفراد، تمر بمراحل النمو المختلفة، بدءا من مرحلة الطفولة، فالشباب، فالكهولة والشيخوخة، وحيث إن "كورونا" بالذات يودي عادة بحياة كبار السن، خاصة ممن لديهم أمراض كالقلب أو الضغط أو السكر، فقد كشف "كورونا" المدى الذي هو عليه الدول، خاصة من الناحية الاقتصادية، لذا فإن الصين تعافت لأنها دولة شابة وفتية، تضج حيوية ونشاطا، وبذلك فإن لها مستقبلا عظيما بين الدول، وعلى صعيد قيادة العالم، أما دولة مثل الولايات المتحدة، وحتى العديد من الأوروبيات، فقد شاخت، وكورونا سيكون مثل هبة الخريف، التي تهز الشجر، فمن شاخ منها يسقط، أما من ما زال شابا، فسيكون أكثر قوة، بعد أن تمر الأزمة، بعد حين، طال أو قصر.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]