ما زالت اسرائيل تواجه أزمتها السياسية بعصبية وبفوضى خطيرة، حيث لم تسعفها ثلاث جولات انتخابية خاضها المواطنون في غضون أقل من عام واحد.

ولقد عبّر بعض المعقبين العرب عن فرحهم بهذه " الجلطة"، وتمنى آخرون ألا تنحلّ العقدة؛ لأنه، هكذا يؤمن هؤلاء، كلما احلولكت السماء فوق تل-ابيب، تخضوضر مروج ابن عامر والشاغور، وتضحك الزنابق في تلاع البطوف وفي شعاب الجرمق؛ أما أنا فلا أعرف كيف سيفيدنا، نحن المواطنين العرب، تفاقم هذه الأزمة. إنها قد تفضي، ببعض تداعياتها، إلى تفكك منظومة الحكم التقليدية في الدولة، لتحلّ بدلها مراكز سلطة "عشوائية" وأدوات ادارة شبه مؤسساتية؛ كتلك التي عرفتها انظمة حكم ديكتاتورية قمعية، نجح قادتها باستغلال حالة "اللامخرج" ليقفزوا عنها ويتربعوا على رأس السلطة المطلقة ويتحكموا في رقاب "اعداء دولتهم"؛ وهو ما نراه يتشكّل أمامنا، وقد ينجز نهائيًا في المستقبل القريب.

لا أنوي مناقشة من دعوا الى مقاطعة الانتخابات، أفرادًا كانوا أم حركات أم مجموعات، ولا أن استدرجهم هنا الى لعبة السفسطائيين وأسألهم مثلًا، تصوروا لو فعلتم/فعلنا كذا وكذا.. أو تصوروا لو لم تفعلوا/نفعل كذا وكذا.. فالانتخابات صارت من خلفنا ونتائجها معلنة؛ واسرائيل، شعبًا وأحزابًا ومؤسسات، ماضية، رغمًا عن مقاطعتهم، أو ربما بسببها، نحو مواسم الحصاد، ولن يوقفها دعاء العاجزين بأن يصيبها الجذام، ولا تمني الحالمين بأن تضربها أسراب الجراد، ولا اشتعال صدور "الثائرين" بالنبيذ وبالوعيد وبالتصفيق الذي، على قول الحكاية السوداء، لن يرزق القبيلة بالاولاد ولا بسعاة القدر الفالحين.

لقد كشفت نتائج ثلاث جولات انتخابية متتالية حقيقة واحدة أكيدة بوجهيها؛ أنّ يهود الدولة ما زالوا يتصارعون داخل "قطار الزمن" كأعداء لا يوحدهم مصير ؛ ونحن، العرب الناجين من لعنة الغفلة القديمة، بقينا وجه تلك الحقيقة الآخر، كما كنا "ملح الزمن" ودخلنا عنوة بطن القطار، نغني ونزرع ونقاتل على حقنا بالريح وبالخبز وبالبقاء؛ ولكن، رغم صدى التجارب، ما فتئت قلة منا تحاول القفز في الهواء وانتظار "جيوش انقاذ" جديدة على أرصفة الرمل والغبار.

لهم ما شاؤوا ولنا ما تقوله العصافير الباكيات على شرفاتنا وشفرات المقاصل في صناديق الاقتراع وفي هسيس الليل البارد. فلا يمكن الاستخفاف بردة فعل الجماهير العربية كما تجلت بارتفاع نسبة التصويت في معظم تجمعاتها السكنية، وبزيادة بارزة بدعمها للقائمة المشتركة؛ وفي نفس الوقت بعزوفها الواضح عن دعم الاحزاب الصهيونية وكنسها في بعض البلدات.

لقد تخطى انجاز المشتركة في هذه الجولة مجرّد تحصيلها العددي وحصولها على خمسة عشر مقعدًا؛ فما حصل على ارض الواقع هو انّ الجماهير العربية اجبرت عمليًا جميع الأحزاب والحركات المنضوية تحت خيمة القائمة المشتركة ان تنأى بأنفسها وترتقي وتتغير مفاهيميًا وأداءً لتكون جديرة بمكانتها المشتهاة، وبتكليفها كممثلة لمصالح تلك الجماهير ولتطلعاتها.

كان على تلك القيادات إما أن تنتقل من مرحلة المراهقة السياسية والمغامرات الالعبانية الى مرحلة البلوغ ووعي تحديات حياتنا ومواجهة الالتباس حول مستقبلنا؛ وإما أن ترتطم نزواتها على خشب الكراسي البرلمانية البالية.

انها علامات واضحة لنضوج وطني جديد، وتجاوب سليم لمجسات مجتمع استشعرت الخطر وشخّصته بدقة وتهيأت لمواجهته بمسؤولية وجهوزية عاليتين. وهي ايضًا انعكاسات هامة لتذويت واع لمعنى الشراكة الجوهرية الحقة، أجراه بشكل معمق كل مركّب من مركبات القائمة، فاستعادوا بعده وبسببه ثقة الناس التي فقدوها.

فالجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي اعترفوا ممارسةً، رغم التردد الذي ما زال قائمًا في بعض الجيوب وبين بعض المحافظين، بقيادة النائب ايمن عودة لتنظيمهم العريق والابرز ؛ وبدون تلك النقلة، الاتفاق على وجود قائد، لما استطاعت الجبهة ان تثبّت قيادتها لصدارة القافلة ولا أن تستعيد ثقة الناس في عدة مواقع ابتعدت عنها، قصاصًا وامتعاضًا، من تشتت مواقفها السابقة. اما مرونة الحركة الاسلامية، كما نجح النائب منصور عباس ان يترجمها ويفرضها في عدة مسائل خلافية، فقد أدّت الى اقناع العديدين من معارضي هذه الحركة الى قبولها شريكة كاملة والعمل من اجل انجاح مرشحيها المتأخرين في القائمة.

وعلى الضفة الاخرى، كان "التحجيم الذاتي" الذي مارسته قيادات في حزب التجمع عاملًا مهمًا في استقرار معادلة التوازنات الصريحة والصحيحة بين الشركاء، تمامًا كما جرى في صفوف "الحركة العربية للتغيير" وذلك بعد ان كانت تجربتها الصعبة، وتصريحات زعيمها النائب أحمد الطيبي في الجولة الأولى، سببًا للأزمة وللانقسام ولغضب الشارع على جميع القيادات.

للقائمة المشتركة قوة سياسية ومعنوية كبيرة، ومعها، بطبيعة الحال، مسؤولية عظمى؛ فهل سيعرف أعضاؤها صونها كما يتوقع منهم ؟

لا احد يملك القدرة على اعطاء الاجابة على هذا السؤال، فشرط ذلك الاول الا يتراجع كل مركب عن مواقفه التي قدمها عربونا للوحدة؛ خاصة على ضوء تجربة القائمة في الماضي ووجود عدة اعضاء بدون ارصدة سياسية ناضجة، مما قد يشكل عثرة في وجه التناغم المطلوب والتنسيق الناجح؛ هذا علاوة على ان الايام القادمة ستضع أمام الاحزاب المشكلة للقائمة عراقيل كأداء لن يتخطاها الفرقاء اذا واجهوها بنفس الروح والمنافسة ومناكفات الماضي.

ويطالب البعض بضرورة وضع اسس فكرية وسياسية للقائمة اكمالًا لنجاحها الانتخابي وكضمانة لعملها مستقبلًا؛ وأتمنى ان يفعلوا ذلك، لكنني أخشى فشلهم، ولذلك، وكيلا نشهد كيف "ستكسر عصاتهم في أول غزواتهم" اقترح ان يفتشوا عن أحزمة أمان استثنائية تضمن ألا يصطدموا ببعض عند أول منعطف أو في أول امتحان، وهذه كثيرة وقريبة.

لقد برز دور معظم رؤساء البلديات والمجالس المحلية العربية في دعم القائمة المشتركة وبنداءاتهم العلنية والحاسمة لدعوة الناس ولإخراجهم الى الصناديق. كانت هذه برأيي من أهم التطورات التي شهدتها هذه المرحلة وهي، لعدة اعتبارات، ظاهرة يتوجب رعايتها ومتابعتها وتأطير خلاصاتها بهدف تحويلها الى مفاعيل اجتماعية وسياسية تنتج ما هو مرجو وطنيًا ومحليًا من هذه المواقع ومن قياداتها. ومن اللافت، في هذه الجزئية، أن نلاحظ وجود بداية لصحوة في بعض البلدات الدرزية والمجالس البدوية حيث شهدنا زيادة في عدد المصوتين وبروز بعض الرؤساء والشخصيات التي دعت اهالي بلداتهم للتصويت للقائمة المشتركة.

كانت نسب التصويت للقائمة المشتركة في معظم البلدات العربية مدعاة للفخر وللاعتزاز، وهي في نفس الوقت تعبير صادق عن اصرار الناس على العيش بكرامة وعلى استعدادهم لمواجهة ما يحيق بهم من مخاطر لم تعد مجرد افكار على ورق او فذلكات استفزازية يمارسها بعض رموز العنصرية من اجل ان يكسبوا قطعان المصوتين اليمينيين.

ما قام به رؤساء المجالس والبلديات العربية يستوجب العمل على ايجاد الوسائل لضمان استمرار عملية تشبيك مستمر بين قيادات القائمة المشتركة وبين اللجنة القطرية للرؤساء؛ فمن الضروري، برأيي، ان يتم ذلك من خلال اقامة جسم ثنائي يجمع الاطارين ويعكف على ابقاء حالة تنسيق دائم بينهما ويضع آليّة للعمل المتكامل المشترك؛ لأن هذا سيخدم مصالح مجتمعنا بشكل عام .

لا يتعارض مقترحي المذكور مع وجود "اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في اسرائيل"؛ فلهذه دور مختلف، وإن كان أداؤها، في الآونة الأخيرة، ملتبسًا، الى حد ما، أو غير مقنع.

يُعدّ انجاز المواطنين العرب في هذه الانتخابات محطة جديدة على طريق منجزاتهم الكبرى التي بدأوها في ملحمة البقاء، واكملوها، بما يلامس المعجزة، حين استعادوا قوام اقلية كانت مجرد بقايا لهياكل واهنة لتصير جسدًا شامخًا وجسرًا وطيدًا في شرق يائس وهش.

رغم من بخّس بأهمية هذه المعركة، ورغم نظرات بعض من وقفوا على السياج وهم ينتظرون وقوع "المقاتلين" سيبقى آذارنا سفيرًا للشوق وبستانًا للفجر؛ لاننا، كأبائنا، نؤمن انه "حين تبدو السماء رمادية، ونرى وردة نتأت فجأة من شقوق جدار، لا نقول : السماء رمادية بل نطيل التفرّس في وردة ونقول لها: يا له من نهار" .
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]