لماذا لا نستبعد غِياب “الابتسامات” في لقاء الرئيسين بوتين وأردوغان في قمّة موسكو الخميس؟ وما هي الأسباب التي تجعل احتِمالات الخِلاف أكثر من احتِمالات الاتّفاق؟ وكيف فرض الروس أجندات القمّة قبل بَدئِها؟ ومن الذي سيصرخ أوّلًا الروسي أم التركي؟
عبد الباري عطوان
بعد فشل أربع جولات من المُفاوضات، وثلاث مُكالمات هاتفيّة على الأقل، وتلكّؤ روسي، يلتقي الرئيس فلاديمير بوتين نظيره التركي رجب طيّب أردوغان في موسكو غدًا الخميس لبحث الأزمة المُتصاعِدة في مدينة إدلب وريفها، وتجنّب مُواجهة عسكريّة روسيّة تركيّة يعتقد كثير من المُراقبين أنّها باتت وشيكةً، بل وحتميّة.
الرئيس بوتين لم يُوافق على هذا اللّقاء إلا بعد أن تمكّن الجيش العربي السوري بغطاءٍ جويٍّ وإسناد مدفعي روسي من استِعادة مدينة سراقب الاستراتيجيّة بالكامل، وإخراج هيئة تحرير الشام (النصرة) والفصائل الأُخرى المصنّفة إرهابيًّا منها، والسّيطرة على الطّريق الدولي السّريع (إم 4) الذي يَربِط دِمشق بحلب، في كسرٍ مُتعمَّدٍ للإنذار التركيّ الذي انتهى بنِهاية شهر شباط (فبراير) الماضي.
هذا اللّقاء ربّما يكون الوحيد المعروفة أجندته مُسبقًا، ويكون فيه موقف الرئيس أردوغان الذي ألمح في طلبه لعقده، هو الأضعَف، ومن غير المُستبعد أن تكون احتِمالات الفشل أكثر من احتِمالات النّجاح، إلا إذا خضع الرئيس التركي لشُروط مُضيفه الروسيّ بالكامِل، وقدّم تنازلات غير مسبوقة.
***
ما يُؤكِّد على هذه الحقيقة البيان الذي صدر الأربعاء عن الكرملين ووزارة دفاعه معًا، يَصِف التدخّل العسكريّ السوريّ في ريف إدلب “صراحةً” بأنّه تدخّلٌ مشروعٌ يأتي تطبيقًا حرفيًّا لاتّفاق قمّة سوتشي (بين بوتين وأردوغان في سبتمبر عام 2018)، وأنّ القوّات الأجنبيّة في سورية، باستِثناء الروسيّة، التي جاءت بطلبٍ سوريّ “غير شرعيّة” ويجب أن تُغادر الأراضي السوريّة سلمًا أو حربًا، في إشارةٍ مُباشرةٍ إلى القوّات التركيّة.
الرئيس أردوغان يُريد إقامة “إمارة إسلاميّة” في مِنطَقة إدلب تحت عُنوانٍ آخِر “مِنطقة آمنة” تُوفِّر الإقامة شِبه الدائمة لأعدادٍ كبيرةٍ من عناصر الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة بزعامة تنظيم “النصرة” مُصنّفة إرهابيًّا، وتَضُم مُقاتلين من الإيغور والقوقاز وتركمانستان، والشيشان، جاءت بطلبٍ تركيٍّ للقِتال في سورية، ولكنّ هذا الطّلب مَرفوضٌ بالكامِل من الجانب الروسيّ، والرئيس بوتين شخصيًّا، لأنّه يعنِي استِسلامًا لهذه الجماعات والفصائل التي تُشَكِّل خطرًا على أمن واستِقرار روسيا أيضًا، ومُكافأةً لها، وفقًا لما ذكره سيرغي لافروف وزير الخارجيّة الروسي في مُؤتمر حُقوق الإنسان في جنيف.
هل ستتمخّض هذه القمّة عن حُلولٍ وسط، أو بمعنى آخر، تعديل بُنود اتّفاق سوتشي؟ لا نعتقد ذلك، لسببٍ بسيط، وهو أنّ الرئيس بوتين لم يعد يَثِق كثيرًا بالرئيس أردوغان ووعوده، ويتّهمه بعدم احتِرام الاتّفاقات، بل ويُوقّعها من أجل عدم تنفيذها لاحِقًا كسبًا للوقت، حسب ما ذكره لنا مصدر روسي مُطّلع.
قصف الطائرات الروسيّة لرتلٍ عسكريٍّ تركيٍّ في مِنطَقة “النيرب” وجِوارها، ومقتل 34 جُنديًّا تركيًّا، ورفض بوتين لطلب الرئيس أردوغان بالوقوف على الحِياد في المُواجهة السوريّة التركيّة في إدلب، كان رسالةً واضحةً تُؤكِّد أنّ الموقف الروسيّ في دعمٍ مفتوحٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ للجانب السوريّ لم يتغيّر فقط، بل ازداد صلابةً.
الرّوس بارِعون في نحت الحُلول للأزَمات، والسوريّة منها خاصّةً، ولكن هذه القاعدة التي نجَحت في حلب والغوطة الشرقيّة لم تعد واردةً، أو مُمكنةً في إدلب التي تُعتَبر المحطّة قبل الأخيرة في الأزمة السوريّة (الأخيرة هي شرق الفرات)، ويجب أن تكون محطّة الحسم لإنهاء وجود الجماعات الإرهابيّة كُلِّيًّا في سورية، واعتِبار هذه الجماعات مُشكلةً تركيّةً بالدّرجةِ الأولى.
لا نعتقد أنّ الجانب التركيّ يُمكن أن يخوض حربًا مع الروس على جبَهتين في الوقتِ نفسه، الأولى بعيدة في ليبيا، والثانية قريبة في إدلب والشمال السوري، خاصّةً بعد ان سدّ حلف “الناتو” آذانه على نِداءات استِغاثته للتدخّل إلى جانبه في إدلب، ومن المُستَبعد أن يتدخّل بعد حشد 130 ألف مُهاجر بالقوّة على حُدود رومانيا وبلغاريا واليونان واستِخدامهم ورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي في هذا الصّدد.
لا نُجادل مطلقًا في أنّ الأوروبيين كانوا شُركاء أصليين في التدخّل العسكريّ في سورية إلى جانب تركيا، ومن أبرز المُؤيّدين، بل والسّاعين، لتغيير النظام في دِمشق بالقوّة، ويجب أن يدفعوا ثمنًا لهذا التدخّل حتى لو تمثّل في استِضافة مِئات الآلاف من اللّاجئين، ولكن ما يغيب عن ذِهن الرئيس أردوغان أنّ أوروبا باتت تعتبر الإطاحة بحُكمه أولويّة تتقدّم على إطاحة النظام السوري في الوقت الرّاهن، وهذا ما يُفسِّر الهُجوم الأوروبي الشّرس الحالي على الرئيس أردوغان واتّهامه “بالبلطجة” و”الابتزاز” باستِخدامه اللّاجئين كورقةِ ضغط.
***
سنُراقِب ملامح وجهيّ الزّعيمين الروسيّ والتركيّ في لقاء قمّة الغد في موسكو بتمعّنٍ شديد، ليس بحثًا عن ابتِسامات، لأنّها لن تكون موجودةً حتمًا، وإنّما لتحسّس وقِياس حجم الغضَب، وغِياب الثّقة بين الجانبين.
إمكانيّات الاتّفاق تبدو محدودةً، إن لم تكُن معدومةً، ولا خِيار أمام الرئيس التركيّ الضّيف غير الرّضوخ للمطالب الروسيّة، أو مُعظمها، ووقف التّصعيد في إدلب، والتّسليم بأنّها مدينة سوريّة ويجب أن تعود لسيادة الدولة السوريّة مِثل جميع المناطق الأُخرى.
الرّفض والعِناد قد يُؤدِّي إلى تفعيل أنشطة الانفصاليين الأكراد في تركيا وشمال سورية، وضرب القوّات التركيّة في كُل من إدلب وليبيا معًا، واستِخدام ورقة الأقليّات العرقيّة في العُمق التركيّ من قبل الروس حسب بعض التّسريبات الصحافيّة الروسيّة.. وجميع هذه الأوراق المُهمّة لم تُستَخدم بعد، ولكنّها ستكون على مائدة اجتماع القمّة بين الزّعيمين ووفديهما عالِيا المُستوى في موسكو غدًا، صراحةً أو تلميحًا، وهي القمّة التي سينتظر الجميع دُخانها الأبيض أو الأسود، ونحنُ من بينهم بالطّبع.
[email protected]
أضف تعليق