تُشَكِّلُ قَضِيَّةُ سَدِّ النَّهْضَةِ الأَثيوبيِّ إِحْدى أَهَمِّ القَضايا العالِقَةِ في القارَّةِ الأَفريقِيَّةِ بَيْنَ الدُّوَلِ المُشاطِئَةِ عَلى حَوْضِ النّيلِ الأَزْرَقِ، وَأَعْني أثيوبيا، والسّودان، وَمِصْر. وَلتلكم القَضِيَّةِ امْتداداتٌ تاريخِيَّةٌ، وَقانونِيَّةٌ، وَسِياسِيَّةٌ، وَدِبْلوماسِيَّةٌ، وَداخِلِيَّةٌ، واقْتِصادِيَّةٌ، وَتَنْمَوِيَّةٌ جدّ مُعَقَّدَةٍ. فَمِن اتَّفاقاتٍ مَوْروثَةٍ مِنْ عَهْدِ الاسْتِعْمارِ، وَما بَعْدَه حَوْلَ مِياه النّيل، وَاخْتِلافِ الاعْتِرافِ بَيْنَ الأَطْرافِ بِصلاحِيّتِها، مُرورًا بِذاكِرَةٍ تاريخِيَّةٍ لَدى الشُّعوبِ، حُبْلى بِتَصَوُّراتٍ ذِهْنِيَّةٍ سَلْبِيَّةٍ يَحْمِلُها كُلُّ طَرَفٍ عَنِ الآخر، خاصَّةً بَيْنَ أثيوبيا وَمِصْر، الْتِفاتًا إِلى التَّوَتُّراتِ السِّياسِيَّةِ التي شَهِدَتْها تِلْكم الدُّوَلُ مِنَ الدّاخِلِ، والصِّراعِ مِنْ أَجْلِ السُّلْطَةِ، وُصولًا إِلى رَغْبَةِ الأَطْرافِ في تَحْقيقِ التَّنْمِيَةِ، وَمِنْ ثَمّ اخْتلاف المَصالِحِ المائِيَّةِ بَيْنَها، انْتِهاءً بِاخْتلالِ بِنْيَةِ النِّظامِ الدَّوْلِيّ الحالي، وَعَدَمِ وُضوحِ مَبادِئِه، أَوْ تَأَكُّدِ مَعاييرِه، ناهيكَ عَنْ عَدَمِ وُضوحِ الأَطْرافِ الدَّوْلِيَّةِ الأُخْرى المُشارِكَةِ في القَضِيَّةِ. وَعَلَيْه؛ فَلَيْسَ مِنَ السَّهْلِ الادِّعاءُ بِالإِحاطَةِ بِحَيْثِيّاتِ قَضِيَّةٍ دَوْلِيَّةٍ، كَقَضِيَّةِ سَدِّ النَّهْضَةِ، مِنْ لَدُن مُقارَبَةٍ واحِدَةٍ.
يَخْلُصُ القارِئُ المُهْتَمُّ بِمَلَفِّ سَدِّ النَّهْضَةِ إِلى أنَّ المَوْقِفَ المِصْرِيَّ هو الأَكْثَرُ ارْتِباكًا بَيْنَ مواقِفِ دُوَلِ حَوْضِ النّيلِ الأَزْرَقِ، فَمِنْ مُحادَثَةٍ سِريَّةٍ سَرَّبَتْها ويكيليكس مِنْ مَرْكَزِ ستراتفور الاسْتِخْباراتِيِّ الأَميركِيِّ، لِعُمر سُلَيْمان، مُديرِ الاسْتِخْباراتِ العامَّةِ في عَهْدِ الرّئيس حسني مبارك، قال فيها2010: "... إِذا وَصلَ الأَمْرُ إِلى أَزْمَةٍ، فَسَنقومُ، بِبَساطَةٍ، بِإِرْسالِ طائِرَةٍ لِقَصْفِ السد، وَالعَوْدَةِ في نَفْسِ اليَوْم، أَوْ يُمْكِنُنا أَنْ نُرْسِلَ قُوّاتِنا الخاصَّةَ لِتَخْريبِ السد"، إِلى خِطابِ الرّئيس محمد مرسي في حُزَيْران 2013، وَقَوْله: "إنَّ جَميع الخَياراتِ أَمامَنا مَفتوحَة في التَّعامُلِ مَعَ هذا المَلَفّ" وَأنَّ النّيلَ "إِنْ نَقصتْ مِياهُه قَطْرةً واحِدَةً فَدِماؤُنا هِيَ البَديل"، تُوِّجَ المَوْقِفُ المِصْرِيُّ في عَهْدِ الرَّئيس عبْد الفتّاح السّيسي بِتَوْقيعِ اتِّفاقِ إِعْلانِ المَبادِئِ حَوْلَ مَشْروعِ سَدِّ النَّهْضَةِ الأثيوبيِّ المُوَقَّع في الخَرطوم، 23 مارس 2015. وَمِنْ خِلالِه، كَسبتْ أثيوبيا مَعْرَكَةَ السَّدِ، وَفَرَضَتْ عَلى باقي الأَطْرافِ التَّعامُلَ مَعَه بِوصْفِه حَقيقَةً واقِعَةً، وَأَنْهَتْ، مِنْ ثَمّ، التّهديداتِ بِاسْتِخْدامِ القُوَّةِ، أَوِ اللُّجوءِ إِلى الخَيارِ العَسْكَرِيّ.
تَطْرَحُ المُعْطَياتُ المُشارُ إِلَيْها أَعْلاه مُقَدِّمَةً مُهِمَّةً للاسْتِدْلالِ عَلى ما نَقْصِدُه ببَنْكِ المِياه، من جِهَة، وَرِعايَةِ الخزانَةِ الأميركيَّةِ، والبَنْكِ الدَّوْليّ - بَعْدَ الاجْتماعِ مَعَ وُزراءِ خارجيَّةِ الأَطْرافِ الثّلاثَةِ في واشنطن، 6 نوفمبر 2019- لِلمُفاوَضاتِ الفنيَّةِ لِوُزراءِ الريِّ لَدى الأَطْرافِ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرى. إنَّ تَوْقيعَ اتَّفاقِ إِعْلانِ المَبادِئِ بَعْدَ شُروعِ أثيوبيا في بِناءِ السَّد هُوَ ما أَكْسَبَه شَرْعِيَّةً لاحِقَةً لِبِنائِه، لا سابِقَةً لَه كما هو المُتَعارَفُ عَلَيْه في اتِّفاقاتِ المِياهِ الدَّوْلِيَّةِ للأَغْراضِ غَيْرِ المِلاحِيَّةِ، وَهَوَ ما فَرَضَ، مِنْ ثَمَّ، عَلى المُفاوَضاتِ التي أَسْفَرَتْ عَنْ تَوْقيع الاتِّفاقِ لِأنْ تَكونَ ذاتَ طَبيعَةٍ فَنِّيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَلْءِ السّد، وَتَشْغيلِه. تلكم المُفاوَضات التي اسْتَمَرَّتْ لِأَرْبَعِ سَنَواتٍ، ثُمَّ انْتَهَتْ – حَسب الموقِفِ المِصْريّ- إِلى طَريقٍ مَسْدودٍ؛ ما جَعَلَ مِصْر تُطالِبُ بِتَدَخُّلِ المُجْتَمَعِ الدَّوْليّ لِتَقْريبِ وجهاتِ النَّظَرِ بَيْنَ الأطْرافِ، فَكانَتِ الرِّعايَةُ الأَميركيَّة التي أَشَرْنا إِلَيْها سابِقًا.
لا يَخْفى أنَّ هناك دَلائِلَ عِدَّة تَدْعَمُ الحَديثَ عَنْ سيناريو "بَنْكِ المِياه"، مِنْها تَصْميمُ السّد نَفسه، فالأخيرُ تنْعَدِمُ فيه فَتَحاتٌ في الأَسْفَلِ تَسْمَحَ بِتَصْريفِ المِياه إِلى دُوَلِ المَمَرِّ والمَصَبِّ، فَلا تَتَدَفَّقُ المِياه إِلّا مِنَ فَتَحاتِ التّوربيناتِ المُوَلِّدَةِ للكَهْرباء، أَوْ مِنَ خِلالِ ارْتِفاعِ مَنْسوبِ المِياه في بُحَيْرَةِ السدّ. وَبِاخْتِصار، يُناسِبُ تَصْميم السدّ كَما لَوْ أنَّ أثيوبيا دَوْلَةُ مَصَبّ، لا مَنْبَعٍ، الأمْرُ الذي يُنْذِرُ بِوُجودِ غاياتٍ سِياسِيَّةٍ لَدى أثيوبيا، غَيْرِ تَوْليدِ الطّاقَةِ الكَهْرومائيَّةِ، مِنْ تلكم الغاياتِ احْتِجازُ المِياه، وَالتَّحَكُّمُ بِتَدَفُّقِها تَمْهيدًا لِبَيْعِها لِدُوَلِ المَمَرّ والمَصَبّ.
ثُمَّ تَأتي رِعايَةُ الخَزانَةِ الأميركيَّةِ – لا وِزارَة الخارجيَّة!- للْمُفاوَضاتِ الفنيَّةِ عَلى مَسْتَوى وُزَراءِ الريّ لِتَدْعَمَ سيناريو بَنْكِ المِياه، وَتُؤَكِّدَ المِعيارَ الأَميركيَّ في بَيْعِ المِياه – كما النِّفط- فَإِدارَةُ الصِّراعِ عَلى الطَّريقَةِ الأميركيَّةِ تَقومُ عَلى اسْتِعارَةِ "السِّياسَة صَفْقَة"، وَأنَّ القَضايا التي قَدْ تُؤذِنُ بانْدِلاعِ الحُروب يُمْكِنُ حَلُّها بالاسْتِثماراتِ الاقْتِصاديَّةِ التي تُسْهِمُ في إِغْناءِ المُحيط، وَمِنْ ثَمّ تَجْريد تلكم القَضايا، مِنْ جَوانِبِها القانونيَّةِ، والحقوقيَّةِ، والتاريخيَّة.
وَغَيْرُ بَعيدٍ أنْ يَكونَ سَدُّ النَّهْضَةِ جُزْءًا مِنْ صَفْقَةِ القَرْنِ، حَيْثُ يَمْنَعُ السدُّ تَمْريرَ المِياه للسّودانِ وَمِصْر إلّا وَفق اشْتِراطاتٍ أثيوبيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، يَجْري التَّفاوُضُ عَلَيْها بَيْنَ الأَطْرافِ المَعْنِيَّةِ، فَتُصَدِّرُ إِسْرائيلُ لِمِصْر الغازَ، أَمّا أثيوبيا، فَتُصَدِّرُ لَها المِياه.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]