من ضمن جرائم الدولة المنظمة، تعد عمليات اغتيال الأفراد، أياً كانوا دون محاكمة، أو خارج القانون، وحين يكون الأفراد يتبعون الدولة، أي من مواطنيها، وتتم عملية الاغتيال على أرضها وضمن صلاحيات قوانينها، فإن قوانينها هي التي تحكم الإجراءات القضائية بحق من نفذوا وخططوا وشاركوا بعمليات الاغتيال، أما حين تتم بحق مواطنيها، على أرض دولة أخرى، فان قوانين تلك الدولة هي التي تحكم تلك الإجراءات، أما حين تتم بحق مواطني دولة أخرى، وعلى أرض تلك الدولة أو على أرض دولة ثالثة، فإن القانون الدولي هو الذي يمكن اللجوء إليه، لعقد جلسات القضاء بحق القتلة.
وكثير من الأفراد الذين سبق لهم وأن مارسوا عمليات الاغتيال بدوافع سياسية وليست جنائية، لم يتم اتخاذ حكم الإعدام بحقهم، كما حدث مع قاتل الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، أو مع قاتل إسحق رابين الذي ما زال يقبع في السجن الإسرائيلي، مع ذلك يلاحظ بأن إسرائيل سبق لها وأن نفذت عمليات اغتيال بحق العشرات من القادة الفلسطينيين على أراض دول أخرى، أو عمليات اغتيال ميداني، ولم تنعقد بعد بحقها محاكم القضاء، لتدين من قاموا بتلك العمليات أو من خططوا لها أو من أعطوا الأوامر من المسؤولين أو رؤساء الوزارات المتعاقبة، وليس آخر ذلك ما حدث قبل شهرين من اغتيال صريح ومباشر بحق الشهيد بهاء أبو العطا في مدينة غزة.
كذلك إقدام البيت الأبيض الأميركي على اغتيال أبو بكر البغدادي وأخيرا قاسم سليماني، الأول في سورية والثاني في العراق، على اعتبار أنهما عدوان للولايات المتحدة، أي أن الدولة الأميركية وخارج القانون الدولي حكمت على من هو عدو لها بالموت، دون إجراء أية محاكمة، وخارج إطار القانون الدولي، بل إن أميركا احتلت دولاً، دون أي سند من القانون الدولي، بما يضع الولايات المتحدة ومن قبلها ومعها إسرائيل في إطار المساءلة القضائية الدولية، ذلك أنه لو كل دولة اعتبرت أي شخص عادي أو مسؤول في دولة أخرى عدواً لها، وقامت باغتياله، لخضع العالم بأسره إلى قانون الغاب، أو قانون "كل يأخذ حقه بيده" أي قانون القوة الغاشمة التي تخدم القوي وتقهر الضعيف.
الغريب في الأمر هو أن العالم لا يشهد عملياً مثلاً هذه العمليات تقوم بها دول أخرى، باستثناء أميركا وإسرائيل، بما يشي أولاً بأن هاتين الدولتين لهما الكثير من الأعداء وليس فقط الخصوم في عالم الاقتصاد والسياسة، وثانياً، بأنهما الوحيدتان اللتان لديهما الاستعداد الدائم لتجاوز القانون الدولي، والقيام بعمليات قتل تشبه عمليات القتل التي يقوم بها الأفراد المجرمون بدوافع مختلفة ومتعددة، وحيث إن الدوافع في الغالب هي سياسية، فإن تبعات هذه العمليات، ما دام لا يتم اللجوء معها إلى القضاء الدولي لتسويتها، أو للمحاسبة عليها، فإنها تمنح الآخرين حق الرد بفعل من جنس العمل، في حال استطاعوا، وفي حال لم يستطيعوا، فإنها تراكم الحقد والكراهية لدولتي إسرائيل وأميركا، وذلك لأن من يقومون بتنفيذ والتخطيط وإعطاء الأوامر لعمليات القتل خارج القانون، أي عمليات الاغتيال، إنما يفعلون ذلك باسم دولتيهما، وبحكم تمتعهم بالمكانة الرسمية وبموقع المسؤولية.
وفي الحقيقة، فإن عمليات اغتيال الأفراد قليلاً ما تحقق الأهداف السياسية بعيدة المدى، وإن كانت تعبر عن حنق وحقد لا يستويان مع حنكة السياسة، لذا فإن نتائج أو آثار اغتيال سليماني، لن تؤدي لا إلى انهيار الدولة الإيرانية ولا إلى خروجها من العراق أو سورية، ولا حتى إلى تفكيك لا فيلق القدس ولا الحشد الشعبي، وكما أن اغتيال أسامة بن لادن لم يؤد إلى تلاشي "القاعدة" وإن كان قد أضعفها، فإنه أجج التطرف والتشدد الذي ظهر في "داعش" وكانت أشد قسوة من "القاعدة" لكن المقارنة هنا مختلفة، ذلك أن سليماني لا يقود منظمة شعبية، بل يمثل دولة إقليمية قوية، حين تفشل أميركا وإسرائيل في ثنيها عن التقدم في تعزيز قوتها الإقليمية، وحين تفشلان في تنفيذ التهديد بشن الحرب عليها، تقومان بالفعل الصبياني، وهو الاغتيال الذي يهدف إلى تحقيق المكاسب الانتخابية، حيث من الواضح أن كلا من دونالد ترامب وهو يواجه إجراء العزل الداخلي، وبنيامين نتنياهو وهو يواجه الاستجواب القضائي يحتاجان، إلى ما يقدمانه إلى الجمهور الداخلي من أجل الهرب بجلدهما.
لكن هذه الأفعال تنطوي على مخاطر تهدد مصالح الدولتين خارجياً، فاغتيال سليماني، سيؤدي إلى توسيع دائرة التعاطف مع إيران، خاصة وهو يقود فيلق القدس، ثم إنه لا بد من القول إنه كلما تقدمت أميركا وإسرائيل المكروهتان شعبياً في المنطقة العربية_المسلمة، بالمس بإيران، اتسعت دائرة التعاطف مع الدولة المسلمة، وبتقديرنا فإن الرد الإيراني قد لا يكون من جنس العمل، أي الرد باغتيال مسؤول أميركي أو حتى إسرائيلي، ولكن على الأغلب سيتحول بالحشد الشعبي إلى حركة مقاومة للوجود الأميركي في العراق، تماماً كما حدث في أفغانستان، وهكذا فإن أميركا التي حصرت وجودها في العراق وسورية في مربع النفط، ستضطر بعد وقت إلى الانسحاب والخروج من المنطقة تحت وقع ضربات المقاومة التي ستتحول إلى حركة تحرر ترفع شعار طرد المستعمر الأجنبي من البلاد.
وإسرائيل أيضاً التي اتبعت سياسة الاقتراب من الأقليات في الشرق الأوسط لتجد لها حلفاء في مواجهة الأغلبية العربية _السنية المسلمة، وعلى خلفية ما زالت تتبعه من تصنيف طائفي، ستجد مئات ملايين المسلمين الشيعة، على أقل تقدير، كحائط صد في وجه توسعها وانتشارها الإقليمي، حتى وإن كانوا يختلفون مع النظام القائم.
إن نزعة القومية والوطنية التي لا تدرك أبعادها دولتا إسرائيل، الأولى بسبب العمى البراغماتي الذي لا يرى سوى المصلحة المالية، والثانية بسبب العمى الديني واليميني، وكلاهما بسبب عمى القوي، الذي ما زال يظن بأنه يمكنه فرض كل شيء بالقوة العسكرية، سيكون سبباً في لفظ أميركا قريباً من الشرق الأوسط، وفي فرض الانزواء مجدداً على إسرائيل، والكف عن مداعبة أحلام التوسع ونفي فلسطين من خارجة الجغرافيا السياسية، وكل الفتوحات عبر التاريخ شاهد على نجوم ذهبت بعد أن سطعت لوقت عالياً.
[email protected]
أضف تعليق